الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرحه على الأصفهانية:
“وبهذا تبين أن قياس التمثيل قد يكون أتم في البيان من قياس الشمول، فأما ما يقوله طائفة من النظار من أن قياس الشمول هو الذي يفيد اليقين دون التمثيل فهذا لا يصح إلا بحسب المواد (أي موضوع القياس)، بأن يوجد ذلك في مادة يقينية وهذا في مادة ظنية،”
قلت: أي أن قياس الشمول إن كان موضوعه يقينيا، فنتيجته تكون يقينية، وكذلك في التمثيل، ولنفس السبب، وإن كان الموضوع ظنيا، فالظن ناتج عن القياس سواء كان شموليا أو تمثيليا. ولكن لأن الفلاسفة قد اعتادوا على أن يجعلوا من قياس الشمول طريقا لتأسيس نظرياتهم في الوجود والموجود، فيقال، مثلا: لا يستحق الموجود أن يوصف بصفة ما، إلا بأن يكون مركبا من كذا وكذا، هذا الموجود المحسوس (أو المغيب) يوصف بكذا وكذا، إذن فهو مركب من نفس التركيب، لهذا أصبحوا ينسبون القطع العقلي على تلك الأقيسة، مع أنها ليست إلا رجما بالغيب وعدوانا عليه بالظنون والأوهام من مبدأ الطرح! ونظير ذلك يقال اليوم في قوة القياس الرياضي والأنموذج الهندسي، وإفادته اليقين. فالاعتقاد السائد اليوم عند الفيزيائيين أن الأنموذج الرياضي السالم من التناقض الداخلي، يفيد اليقين في صحة ما يبنى عليه من دعاوى بشأن الواقع بإطلاق! مع أن تلك الدعاوى لا تكون مبنية عليه وحده، وإنما على تأويل النظار لمخرجاته في ضوء المقدمات الأنطولوجية والميتافيزيقية التي بني عليها الأنموذج نفسه ابتداء! ومثال ذلك اعتقاد الفيزيائيين في وجود ما يقال له الثقب الأسود، مثلا، أو إثباتهم ما يقال له المادة السوداء أو الطاقة السوداء. فهم الآن يتصرفون في أبحاثهم تصرف من هو جازم قاطع بوجود تلك الأشياء، لا يرتاب فيها طرفة عين! وإذا سألتهم ما الذي دلكم عليها ابتداء، قالوا المعادلات، معادلات النسبية العامة تدلنا عليها! ودلالة الرياضيات لا مغمز فيها! وقد استطعنا أن نتأول المشاهدات بما يوافق ذلك! ولكن هل الرياضيات (بهذا الإطلاق) دلالتها كما يقولون حقا؟ أي أن ما تجيزه المعادلات بشأن الواقع، وجوديا، يكون جائزا بالضرورة، وما توجبه يكون واجبا بالضرورة، وما تمنعه يكون بالضرورة ممنوعا وجوديا؟؟ هذه من قضايا الحكم العقلي الدقيقة التي تكلمنا عليها في كتاب المعيار وفي سلسلة بيان منهج أهل السنة في التجريبيات، بشيء من التفصيل لأهميتها البالغة ولتأثيرها على عقائد الفيزيائيين. فمع أن أكثر فلاسفة الغرب اليوم يفرقون بين الوجوب العقلي والوجوب الفيزيائي (المبني على معادلات الفيزياء المعتمدة حاليا)، وبين الامتناع العقلي والامتناع الفيزيائي، وكذلك في الجواز، إلا أن جماهير الفيزيائيين لا يعملون في الاعتقاد والتلقي بشأن ما في الأعيان، في ضوء تلك القاعدة، أو تأسيسا عليها! بل يعملون بما يخالفها تحقيقها! فالحق، والذي يجب أن يعتقده الفيزيائي المسلم، أن المعادلة الفيزيائية ليست وصفا مطابقيا للظاهرة التي هي مادتها أو موضوعها، وإنما هي قياس تمثيل لجملة من النظاميات المطردة في العادة البشرية في حدود التجربة البشرية التراكمية، فهي تمثل بالنمط الرياضي المختار بصورة تقريبية لوصف العلاقة بين الكموم المنفصلة أو المتصلة المعبرة عن أنواع معينة من الموجودات أو الظواهر المحسوسة تفسر بها تلك النظاميات، بحيث تكون المعادلات واصفة، مع ذلك، لاطراد تلك النظاميات في جملة ما تصف، ومشتملة عليها بصورة ما أو بأخرى. فإذا تنبأت المعادلة بحادث ما، في إطار القيم المعتادة لمتغيرات العلاقة النظامية التي يعبر عنها بالمعادلة، فإنما يتوقع لها أن تصح بنسبة أرجحية احتمالية معينة، تتضاءل كلما ابتعدت القيمة المدخلة لتلك المعادلات عن إطار العادة، حتى تصل إلى نقطة تصبح المعادلة فيها، بالضرورة، غير دالة على المطلوب ولا بأي مقدار من الأرجحية الاحتمالية! فحتى قولنا إن القوة تساوي حاصل ضرب الكتلة في التعجيل F = ma في المعادلة النيوتونية المشهورة، هذا نتوقع أن يصح ويطرد في إطار العادة باحتمالية قوية لا بقطع عقلي أو ضرورة عقلية كالوجوب العقلي! وكلما تعاظمت قيمة الكتلة، أو قيمة التعجيل، مبتعدة عن إطار العادة والخبرة البشرية في ذلك المقدار، تضاءلت احتمالية أن تصح تلك العلاقة في مشابهتها الواقع، وأن يثبت ما تشبهه تلك القوة أو تعبر عن تأثيره الغيبي في الأعيان، على تقدير وجود موجود بتلك الكتلة أو متحرك تتسارع حركته بذلك المقدار أصلا! ويظل ذلك التضاؤل يزداد، حتى يصل إلى حد نقطع معه بأن المعادلة قد باتت لا علاقة لها أصلا بالواقع، حتى في تصوير تلك العلاقة المطردة التي نشهد اطرادها بحواسنا في عادتنا البشرية التراكمية.
ولكن هنا مسألة أبعد من هذا، وهي معنى تلك القوة نفسها في المعادلة، أو التصور الأنطولوجي الذي قاس عليه نيوتن حتى يضع تلك المعادلة في وصف ما يجري عند تأثير جسم على جسم آخر بما يؤدي إلى تحريكه! فلا يلزم من مجرد كون المعادلة واصفة وصفا دقيقا لما عليه عادتنا في الظاهرة المحسوسة نفسها، أن يصح ذلك التصور الأنطولوجي نفسه الذي قاس عليه صاحب المعادلة عند وضعه إياها! وأعني بصحته هنا أن يطابق الواقع في نفس الأمر! ومهما دلت المشاهدة على مواطأة النمط الرياضي لتلك النظامية في العادة البشرية، لم يكن في ذلك دليل عقلي من قريب ولا بعيد على مطابقة تلك الفروض الأنطولوجية للواقع كما يرجوه الفيزيائيون!
ولهذا لا أملك حقيقة إلا أن أضحك كلما قرأت مقالا يتكلم فيه صاحبه، الفيزيائي غالبا، عن تجويز معادلات النسبية العامة لاختراع ما يسمونه في أدبيات ما يقال له الخيال العلمي، بمحرك الثني الزمكاني Warp Drive، ومن ثم استعماله في كسر حاجز النسبية الخاصة فيما يتعلق بسرعة انتقال الجرم الذي له كتلة (وهو ألا يجاوز سرعة الضوء)!
في عام 1994 الميلادية نشر أحدهم، وهو فيزيائي مكسيكي من هواة مسلسل Star Trek الأمريكي، يدعى ميغل ألكوبيير Alcubierre، مقالا محترما في دورية فيزيائية دولية محكمة، يتصور فيه ما يمكن أن تسمح به رياضيات النسبية العامة من فكرة عمل لذلك المحرك المزعوم، الذي صار يعرف فيما بعد بمحرك ألكوبيير. فقال بعد جهد مضن في اختراع “حل خطي” لمعادلة المجال يحقق ما تصور، قال إننا لو قدر أن توصلنا إلى طريقة لضغط “الزمكان” أمام المركبة الفضائية، وتمديده خلفها، فإننا بذلك نكون قد قصرنا المسافة المراد قطعها، وضاعفنا، من ثم، من سرعة المركبة، بتغيير صفة الخلاء الذي تتحرك فيه، دون أن نغير من حركتها هي نفسها شيئا! فإذا فعلنا ذلك، فسنتمكن، نظريا، من تجاوز سرعة الضوء بأضعاف مضاعفة، كما يتجاوز الزمكان تلك السرعة فعليا في تمدده المزعوم عند الكوزمولوجيين، من غير أن تتحرك المركبة بالنسبة للفراغ المتمدد نفسه أصلا! المشكلة الوحيدة أن فكرته كانت تتطلب كمية فاحشة مما يقال له الطاقة السالبة Negative Energy! ما معنى الطاقة السالبة؟ قالوا هي كثافة سالبة لطاقة الحركة الصافية الموزعة في فراغ ما! أي هي توزيع للطاقة على وحدة الحجم، قيمته أقل من الصفر! هذه الطاقة المزعومة فرضها بول ديراك في عام 1928 الميلادي على أنها حالات كمومية معادلة في جملته لجملة الحالات الكمومية للطاقة الموجبة، ولكننا لا نشهد آثارها، لأن الموجبة هي التي تحرك الأشياء من حولنا في الخلاء الفيزيائي كما نعهده! فإن فرضنا أن خلينا الفراغ بالكلية من الطاقة الموجبة بجميع صورها، فحينئذ فقط سيظهر التأثير المحسوس للطاقة السالبة! وفي عام 1948 صمم هندريك كازيمير تجربته المشهورة التي أثبت فيها ما يقال له تأثير كازيمير، حيث علق في خلاء مطلق Absolute Vacuum (أي في صندوق مفرغ من الغازات تماما) شريحتين متوازيتين رفيعتين للغاية من المعدن المسطح، على مسافة بالغة الدقة تفصل بينهما، على أساس أن رفعهما يضمن خفة وزنهما ومن ثم يقلل من تأثير الجاذبية إلى حد يمكن إهماله، ومع توصيلهما بالأرض يضمن تخلية المكان كذلك من أي تأثير كهرومغناطيسي لأي شحنة عليهما! فلما راقبهما، لاحظ أنهما يقتربان من بعضهما البعض حتى يلتصقا، فيما بات يعرف بتأثير كازيمير. فبأي شيء فسر كازيمير هذه المشاهدة؟ قال لابد وأن الطاقة السالبة التي فرضها ديراك هي التي حركتهما! وهو ما فسره بأن المجال الكمومي المالئ للفراغ، الذي لا يمكن تخليته منه، تنشأ فيه جسيمات دقيقة وتختفي، بمعدل معين، وهو ما من شأنه أن يحدث تلك الطاقة السالبة، التي تؤثر بدورها ذلك التأثير دون أن تجد في الفراغ ما يعادله ويلغيه! العجيب أنهم ارتضوا ذلك التفسير، وعدوه دليلا على وجود ما يقال له الطاقة السالبة، مع أنهم إنما عرفوها وسموها بالسالبة لأن كثافتها في الفراغ أقل من الصفر!!
فما معنى الكثافة أقل من الصفر؟ لا معنى له أصلا! لأن الكثافة من حيث هي مقدار فيزيائي معناها توزع كم معين لشيء معين وجودي في فراغ معين بمقدار يمكن حسابه! فإذا نزل ذلك المقدار إلى الصفر، انعدم ذلك الشيء في الفراغ! هذا هو معناه رياضيا. فما معنى المقدار السالب هنا إذن؟ لا معنى له!
فمع أن المعادلات يمكن أن تصاغ ونتائجها يمكن أن تؤول بما يخدم تلك الفرضية، إلا أنها في حقيقة الأمر، تصف كما عدميا لا يمكن أن يوجد أصلا في الأعيان! ولا يعنيني في هذا المقام أن أفرض تفسيرا بديلا لظاهرة كازيمير تلك، ولكن القصد أن محرك ثني الفراغ هذا يحتاج إلى طاقة وهمية لا حقيقة لها، من أجل أن يحدث تأثيرا وجوديا في شيء عدمي لا وجود له خارج الذهن أصلا، يقال له الزمكان، على نحو مخصوص (مصمم خصيصا)، لصالح أن يتحرك ذلك الفراغ العدمي في “الفراغ” بانكماشات وتمددات تكسبه سرعة تجاوز الحد الذي منعت معادلات أخرى (في النسبية الخاصة) من تجاوزه بالتعجيل لأي جرم له كتلة داخل الفراغ! وهو ما خرجوا منه واعتذروا له بأن قالوا: النسبية الخاصة تمنع من تعجيل الأجسام لسرعة تجاوز سرعة الضوء داخل الفراغ، ولكن نحن نتكلم عن تحريك الفراغ نفسه!! فما هو “الفراغ” الذي يتحرك داخله “الفراغ” المزعوم هذا، وبأي برهان يُحكم عليه بأن معادلات النسبية الخاصة لا تسري عليه، مع أن حقيقته الذهنية أنه فراغ أيضا، يتفرض في الشيء الوجودي المزعوم الذي يقال له “الزمكان” أنه يتمدد ويتحرك فيه من نقطة إلى نقطة؟؟ أليس الفراغ هو ما يفصل ذهنيا بين الموجود وغيره من الموجودات، وفيه تتحرك المتحركات؟؟ فإذا كان الشيء المتحرك هذا نفسه هو حقيقة الفراغ فيزيائيا، بهذا الإطلاق الميتافيزيقي الفاسد، لزم الدور! دور وتحكم ميتافيزيقي محض بتعريفات اعتباطية، وخلط فاضح بين الحقائق الذهنية العدمية والحقائق الوجودية خارج الذهن، تحت ستار الجمال والدقة الرياضية البالغة، وكل ذلك يتعلق به القوم، وتنفق عليه وكالة ناسا الآن بسخاء، لا لشيء إلا لأن المعادلات الرياضية “تجيزه” ولا تمنعه!! فما نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل!
هذه يا إخوان هي جناية أينشتاين شخصيا على الفيزياء المعاصرة وعلى عقول الأجيال التي جاءت بعده! فهو الذي بدع تلك الطريقة الجديدة في التحايل الرياضي الذهني العميق تحت شعار التجارب الذهنية، لمصلحة مفاهيم ميتافيزيقية فاسدة أصلا (كمسألة الثبات المطلق لمقدار سرعة الضوء بصرف النظر عن حركة ما حولها، مما لا تقدر تلك السرعة إلا بالتنسيب إليه ذهنيا، وهو ما زعم أن الكون يلتزم لأجله بتغيير أطوال المحاور الذهنية للنظام الإحداثي الذي تُقدر عليه تلك السرعة بما يبقيها على مقدارها مطلقا، ومسألة اندماج الزمان والمكان معا في شيء وجودي في الأعيان يؤثر في الأجسام ويتأثر بها!!)! جناية أينشتاين ليست فقط في إفساده معنى الزمان والمكان جميعا، إفسادا يصعب أن تنتشل منه متخصصا في الفيزياء قد أمضى سنوات طويلة في محاولة فهم النسبيتين فهما تاما والتمكن من الرد على الاعتراضات الموجهة إليهما وتطبيقهما كما جرى عليه عرف الأكاديمية، وإنما هي كذلك في جنايته على الطريقة نفسها التي يجري عليها النظار في تلك الصناعة في استعمال لغة التعبير الرياضي والاستناد إليها والاستدلال بها ولها! فالرجل تمكن، لذكائه ونبوغه الذي يشهد به القاصي والداني، من سبك النظريتين (الخاصة والعامة) رياضيا والاستدلال لهما تجريبا على نحو فيه من العمق الرياضي والصعوبة العقلية ما أدى إلى أن صار يقال: لا يفهم النسبيتين حق الفهم إلا ثلاثة رجال، أينشتاين نفسه واحد منهم!! فأنت عندما تكون طالبا مبتدئا في الفيزياء في السنوات الأولى، وتقبل على دراسة نظرية هذه هي سمعتها، وتجد نفسك قد أعياك فهمها فعلا، ومع ذلك ترى الفيزيائيين ينشرون من آن لآخر ما يزعمونه تأكيدا تجريبيا جديدا للنسبية العامة، ويقولون إنه لم تحظ نظرية في تاريخ الفيزياء بنظير ما حظيت به النسبية العامة من التأكيد التجريبي Experimental Conformation، وترى كذلك كيف استعمل أينشتاين وغيره معادلات النسبية العامة في توصيف مقدار انبعاج الكون بكليته، ومن ثم تصور تطوره التاريخي بإطلاق، ممددين تطبيق المعادلة على الواقع بلا حد أنطولوجي إلا ما تسمح به رياضيات المعادلة نفسها، فلابد أن تعتقد اعتقادا راسخا مطابقتها التامة للواقع من كل وجه، وأن أي فرض بشأن ما يمكن وقوعه فيزيائيا من أنواع الحوادث، مهما كان سخيفا ومصادما لبديهيات العقل الأولى، يصبح “حقيقة علمية” بمجرد التمكن من بيان أن المعادلات تسمح به ولا تمنعه نظريا!
ألكوبيير هذا كيف وصل إلى تقرير المطلوبات الفيزيائية اللازمة لتشغيل ذلك المحرك الوهمي الذي أخذ فكرته أصالة من روايات الخيال العلمي المزعوم كما مر؟ قال: إذا كانت المعادلة تقول إن أي شكل للزمكان تسمح الجهة اليسرى منها بوصفه هندسيا، لا يمكن أن يقع في الواقع إلا عندما يكون توزيع المادة والكتلة وكثافات الطاقة كما في التنسور المخصص لوصف ذلك على اليد اليمنى، على نحو معين تفيد به المعادلة، فأيا ما كان الشكل الذي نريد تحقيقه في الواقع “للزمكان” فحسبنا أن نحقق التوزيع المشروط له في المعادلة للكتلة والطاقة. أيا ما كان! وأيا ما كان مقدار الطاقة المطلوبة لذلك، فلابد أننا لو تمكنا يوما ما من جمعها والتحصل عليه وتوزيعها كما في المعادلة، فسنحصل على شكل الزمكان المطلوب! الرجل يجوز عنده نظريا أن تجمع طاقة ما (بصرف النظر عن حقيقتها وجوديا تلك الطاقة أصلا) بمقدار يبلغ عشرين ضعف كتلة كوكب جوبيتر نفسه، وفي حسابات أخرى يتجاوز كتلة الكون المنظور مجتمعة، ويتوقع أن ذلك إن حدث يوما ما، فلابد أن يكون الواقع على وفق ما تفيد به المعادلة!! وهو يقرر هذه المسائل تقريرا جادا ليس بكلام العابث أو الهازل أو الذي يمزح بوجه ما!! والوسط الأكاديمي يقبل منه ويعجبه كلامه، بل وتجمع الأموال لتمويل ذلك المطلب رجاء تحقيق ثمرته المنشودة (وهي تصميم وإنشاء ذلك المحرك المزعوم)!! ولم لا؟ أليس قد سبقه ليميترا في تمديد نفس المعادلة في الماضي وصولا إلى النقطة التي تنهار عندها بالكلية ولا تفيد بتوزيع للكتلة والطاقة ولا بشكل للزمكان المزعوم، فيما سماه بنقطة الفردية Singularity؟؟ فالرجل انطلق في استعمالها من مقدمة خفية مفادها أن المعادلة لابد أن تظل مطابقة للواقع من كل وجه، ما دامت مطردة بلا موجب لانهيارها أو انقطاع دلالتها رياضيا! أي أن حد دلالتها الأنطولوجية هو بعينه حدها الرياضي الصناعي! فإن اتفق أن كانت صياغتها بحيث لا يحدها حد رياضي تنقطع عنده، فهي إذن تصف الواقع أزلا وأبدا وفي كل جهة، باطراد مطلق لا حد له ولا قيد! وإلا، انتهى وصفها للواقع عند نقطة انهيارها الرياضي (كأن توصل، مثلا، إلى لانهاية رياضية لا معنى لها، في إطار المفاهيم الأنطولوجية التي بنيت عليها)!
بل إن من القوم من يقولون: السفر عبر الزمان إلى الماضي جائز فيزيائيا، ولكن بشرط أن نتمكن من إحداث توزيع الكتلة والطاقة الذي يحدث لنا زمكانا على هيئة ما يقال له الثقب الدودي Wormhole، فينقلنا فوريا عبر الزمكان إلى الماضي المطلوب الوصول إليه! ومن القوم من أفنى عمره، حرفيا، في مطاردة ذلك المطلب! أليس الزمكان هذا هو الزمان والمكان معا؟؟ فلابد إذن أن تجوز الحركة عليه في جهات الزمان كما نتحرك عليه في جهات المكان ولا إشكال!! وإذن فالمعادلة لا تملي على الواقع ما يجوز أن يقع فيه وما لا يجوز وحسب، كيفما اتفق لها أن تكون، بل إنها تملي على العقل كذلك تقرير ما يجوز عقلا وما يمتنع! فالمحال هو ما تمنعه المعادلة، والجائز هو ما تجيزه، ما دامت هي البارادايم المعتمد عند الفيزيائيين حاليا! والحق كما بينا أن المعادلات لا تمنع شيئا أصلا! وإنما غايتها، عند تطبيقها في إطار ذلك الحيز من التجربة البشرية التراكمية الذي تصفه وصفا دقيقا، أن تفيد بأرجحية احتمالية قوية أن الواقع سيقع فيه كذا لا كذا، بالنظر إلى دلالة خبرتنا الماضية على مشابهتها للعادة المشاهدة في ذلك الإطار. وأما ما وراء ذلك، فلا تجيز ولا تمنع إلا بمحض التخمين Pure Conjecture! وهذا ما ينبغي على الفيزيائي المسلم اعتقاده في هذا الشأن، والله المستعان لا رب سواه.
مقتطف من المحاضرة الخامسة
في سلسلة شرح شرح العقيدة الأصفهانية
أبو الفداء ابن مسعود