الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله، أما بعد: قال شيخ الاسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (٣/١٤٨-١٥٨):
سؤال الآمدي وهو قوله:
ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح كل واحد بالآخر إلى غير نهاية.
فيقال عن هذا أجوبة:
الأول
أنه إذا كان كل من الجملة ممكنًا بنفسه لا يوجد إلا بغيره فكل من الآحاد، ليس وجوده بنفسه، والجملة ليس وجودها بنفسها، فليس هناك شيء وجوده بنفسه فلا يكون وجوده إلا بغيره.
فتعين أن يكون هناك غير ليس هو جملة مجموع الممكنات، ولا شيئًا من الممكنات وما ليس كذلك فهو موجود بنفسه، وهو الواجب بنفسه ضرورة.
وأما قوله: يكون ترجح كل واحد بالآخر أي يكون كل من الممكنات موجودًا بممكن آخر على سبيل التسلسل.
فيقال له: نفس طبيعة الإمكان شاملة لجميع الآحاد وهي مشتركة فيها، فلا يتصور أن يكون شيء من أفراد الممكنات خارجًا عن هذه الطبيعة العامة الشاملة، ونفس طبيعة الإمكان توجب الافتقار إلى الغير، فلو قدر وجود ممكنات بدون واجب بنفسه، للزم استغناء طبيعة الإمكان عن الغير، فيكون ما هو ممكن مفتقرًا إلى غيره ليس ممكنًا مفتقرًا إلى غيره، وذلك جمع بين النقيضين.
يبين ذلك أنه مهمًا قدر من الممكنات التي ليست متناهية، فإنه ليس واحد منها موجودًا بنفسه، بل هو مفتقر إلى ما يبدعه ويفعله.
فالثاني منها مشارك للأول في هذه الصفة من كل وجه، فليس لشيء منها وجود من نفسه ولا للجملة، فلا يكون هناك موجود أصلًا.
بل إذا قال القائل: هذا موجودًا بآخر، والآخر إلى غير نهاية، أو هذا أبدعه آخر، والآخر أبداه آخر إلى نهاية كان حقيقة الكلام أنه يقدر معدومات لا نهاية لها.
فإن قدر فاعلًا إذا لم يكن موجودًا بنفسه، لم يكن له من نفسه إلا العدم، وقد قدر فاعله ليس له من نفسه إلا العدم.
فكل من هذه الأمور المتسلسلة ليس لشيء منها من نفسه إلا العدم، ولا للمجموع من نفسه إلا العدم، وليس هناك إلا الأفراد والمجموع، وكل من ذلك ليس منه إلا العدم فيكون قد قدر مجموع ليس منه إلا العدم، وما كان كذلك امتنع أن يكون منه وجود، فإن مالا يكون منه إلا العدم، ولا من مجموعه، ولا من أفراد، يمتنع أن يكون منه وجود.
فإذا قدر ممكنات متسلسلة كل منها لا وجود له من نفسه لم يكن هناك إلا العدم والوجود موجود محسوس، فعلم أن فيه ما هو موجود بنفسه، ليس وجوده من غيره وهو المطلوب.
الثاني
أن يقال: الموجود الذي ليس من نفسه، يمتنع أن يكون وجود غيره منه فإن وجود نفسه بنفسه، واستغناء نفسه بنفسه وقيام نفسه بنفسه، أولى من وجود غيره بوجوده، واستغناء غيره به، وقيام غيره به، فإذا قدر ممكنات ليس فيها ما وجوده بنفسه امتنع أن يكون فيها ما وجود غيره به بطريقة الأولى فلا يجوز أن يكون كل ممكن لا يوجد بنفسه وهو مع هذا فاعل لغيره إلى غير نهاية.
وهذا مما لا يقبل النزاع بين العقلاء الذين يفهمونه وسواء قيل: إن المؤثر في مجموع الممكنات هو قدرة الله تعالى بدون أسباب، أو قيل: أنها مؤثرة فيها بالأسباب التي خلقها أو قيل: إن بعضها مؤثر في بعض بالإيجاب أو الإبداع أو التوليد أو الفعل أو غير ذلك مما قيل فإن كل من قال قولًا من هذه الأقوال لا بد أن يجعل للمؤثر وجودًا من موجود بنفسه، لا يمكن أحد ان يقول: كل منها مؤثر وليس له من نفسه إلا العدم، وليس هناك مؤثر له من نفسه وجود، فإنه يعلم بصريح العقل أنه إذا قدر أن كل تلك الأمور ليس لشيء منها وجود من نفسه وجود ولا بنفسه لم يكن له تأثير من نفسه ولا بنفسه، فإن مالا يكون موجودا بنفسه ومن نفسه فأولى به إن لا يكون مؤثرًا في وجود غيره بنفسه ومن نفسه فإذا لم يكن هناك ما هو موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه بل كل منها غير موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه، كان كل معدومًا بنفسه، معدوم التأثير بنفسه، فنكون قد قدرنًا أمورًا متسلسلة كل منها لا وجود له بنفسه ولا تأثير له بنفسه وليس هناك مغاير لها يكون موجودًا مؤثرًا فيها، فليس هناك لا وجود ولا تأثير قطعًا.
وإذا قال القائل: كل من هذه الأمور التي لا توجد بنفسها يبدع الآخر الذي لا يوجد بنفسه كان صريح العقل يقول له: فما لا يكون موجودًا بنفسه لا يكون مؤثرًا بنفسه فكيف تجعله مؤثرًا في غيره ولا حقيقة له.
فإن قال: بل حقيقته توجد بذلك الغير.
قيل له: ليس هناك غير يتحقق به فإن الغير الذي قدرته هو أيضًا لا وجود له ولا تأثير أصلًا إلا بما تقدره من غير آخر ليس له وجود ولا تأثير.
ونكتة هذا الجواب أن تقدير العقل لما لا يوجد بنفسه بعد، ولا يحقق له وجود بغيره كونه مؤثرًا مبدعًا لغيره من أعظم الأمور بطلانًا وفسادًا فإن إبداعه للغير لا يكون إلا بعد وجوده وهو مع كونه ممكنًا يقبل الوجود والعدم ليس موجود فكل ما قدر إنما هي معدومات.
الثالث
يوضح هذا الجواب الثالث: وهو أن نقول: قول القائل: الممكن الذي لم يوجد هو معدوم ليس بموجود أصلًا والمعدوم الذي لم يحصل له ما يقتضي وجوده هو باق مستمر على العدم.
وإذا قال القائل: الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فهذا بين ظاهر في جاب الإثبات فإنه لا يكون موجودًا إلا بمقتضي لوجوده إذا كان ليس له من نفسه وجود.
وأما في النفي فمن الناس من يقول: علة عدمه عدم علة وجوده ويجعل لعدمه علة كما لوجوده علة، وهذا قول ابن سينا وأتباعه، والتحقيق الذي عليه جمهور النظار من المتكلمين والمتفلسفين، وهو الآخر من قولي الرازي أن: عدمه لا يفتقر إلى علة تجعله معدومًا فالعدم المحض لا يعلل ولا يعلل به إذ العدم المحض المستمر لا يفتقر إلى فاعل ولا علة ولكن عدم علته مستلزم لعدمه ودليل على عدمه فإذا أريد بعلة عدمه ما يستلزم عدمه ويدل على عدمه فهو صحيح وإن أريد بعلة عدمه تحقق العدم الذي يفتقر في تحقق إلى علة موجبة له فليس كذلك فإن العدم المستمر لا يفتقر إلى علة موجبة.
فقول القائل: الممكن لا يوجد إلا بمرجح بمنزل قوله: لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بغيره ولا يحتاج أن يقول مالا يوجد بنفسه لا يعدم إلا بغيره فإن مالا يوجد بنفسه فليس له من نفسه وجود.
وإذا قلت: له من نفسه العدم فهذا له معينان: إن أردت أن حقيقة مستلزمة للعدم لا تقبل الوجود فليس كذلك بل هي قابلة للوجود وإن أردت أن حقيقته لا تقتضي الوجود، بل ليس لها من نفسها غير العدم، وأن وجودها لا يكون إلا من غيرها لا من نفسها، فهذا صحيح فالفرق بين كونه ليس له من نفسه إلا العدم، وبين كون نفسه مستلزمة للعدم، فرق بين مع أن قولنا: له من نفسه وليس له من نفسه، لا نريد به أنه في الخارج نفس ثابتة ليس لها إلا العدم، أو هي مستلزمة للعدم فإن هذا يتخيله من يقول: المعدوم شيء ثابت في الخارج، أو يقول الماهيات في الخارج أمور مغايرة للوجود المحقق في الخارج وهذا كله خيال باطل كما قد بسط في موضعه.
ولكن الماهية والشيء قد يقدر في الذهن قبل وجوده في الخارج، وبعد ذلك فما في الإذهان مغايرة لما في الأعيان.
وإذا قلنا: هذا الممكن يقبل الوجود والعدم، أو نفسه أو حقيقته لا تقتضي الوجود ولا تستلزم العدم، فنعني به أن ما تصوره العقل من هذه الحقائق لا يكون موجودًا في الخارج بنفسه، وليس له في الخارج وجود من نفسه ولا يجب عدمه في الخارج بل يقبل أن تتحقق حقيقته في الخارج فيصير موجودًا، ويمكن أن لا تتحقق حقيقته في الخارج فلا يكون موجودًا، وليس في الخارج حقيقة ثابتة أو موجودة تقبل الإثبات والنفي بل المراد أن ما تصورناه في الأذهان: هل يتحقق في الأعيان أولا يتحقق؟ وما تحقق في الأعيان هل تحققه بنفسه أو بغيره؟
فإذا قدر أن المتصورات في الإذهان ليس فيها ما يتحقق بنفسه في الخارج، فليس فيها ما هو مبدع بنفسه لغيره في الخارج بطريق الأولى، وليس فيها إلا ما هو معدوم في الخارج، بل ليس فيها إلا ما هو ممتنع في الخارج، فإن الممكن إذا قدر عدم موجود بنفسه يبدعه كان ممتنعًا لغيره، فإذا قدر انه ليس في الخارج إلا ما ليس له وجود بنفسه، لم يكن في الخارج إلا ما هو ممتنع الوجود، وإما لنفسه إما لغيره، ولا يكون عدم شيء من ذلك مفتقرًا إلى علة توجب عدمه، بل هو معدوم بنفسه سواء أمكن وجوده أو امتنع، وحينئذ فلا يكون في الخارج إلا العدم المستمر.
وإذا قيل، بعد هذا: الذي لا وجود له من نفسه موجود، بهذا الذي لا وجود له من نفسه وهلم جرا، كان بمنزلة أن يقال: هذا المعدوم موجود بهذا المعدوم وهلم جرا بل المعدوم أن يقال: هذا الممتنع موجود بهذا الممتنع فيكون هذا تناقضًا حيث جعلت المعدوم موجودًا بمعدوم، وسلسلت ذلك فجمعت بين تسلسل المعدومات وبين جعل كل واحد منها هو الذي أوجد المعدوم الآخر.
الرابع
أن يقال: الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر، فإن ذلك الممكن الآخر لا يترجح وجوده على عدمه إلا بغيره وإذا كان الممكن الذي قدر انه الفاعل المؤثر المرجح لم يترجح وجوده على عدمه، بل يقبل الوجود والعدم، فالممكن الذي قدر أنه الأثر المفعول المصنوع المرجح أولى أن لا يترجح وجوده على عدمه، بل هو قابل للوجود.
والعدم، بل الممكن لا يكون موجودًا إلا عند ما يجب به وجوده، فإنه ما دام مترددًا بين إمكان الوجود والعدم لا يوجد فإذا حصل ما به يجب وجوده وجد، وإذا كان كذلك فنفس الممكن لا يجب به ممكن، بل لا يجب الممكن إلا بواجب، والواجب غما بنفسه، وإما بغيره، والواجب بغيره هو الممكن من نفسه الذي لا يوجد إلا بما يجب وجوده وحينئذ فيمتنع تسلسل الممكنات، بحيث يكون هذا الممكن هو الذي وجب به الآخر، بل إنما يجب الآخر بما هو واجب، وما كان ممكنًا باقيًا على الإمكان لم يكن واجبًا: لا بنفسه ولا بغيره، فإذا قدر تسلسل الممكنات القابلة للوجود والعدم من غير أن يكون فيها موجود بنفسه كانت باقية على طبيعة الإمكان، ليس فيها واجب، فلا يكون فيها ما يجب به شيء من الممكنات بطريق الأولى، فلا يوجد شيء من الممكنات وقد وجدت الممكنات هذا خلف.
وإنما لزم هذا لما قدرنا ممكنات توجد بممكنات، ليس لها من نفسها وجود من غير أن يكون هناك واجب بنفسه.
واعلم أن الناس قد تنازعوا في الممكنات: هل يفتقر وجودها إلى ما به يجب وجودها، بحيث تكون إما واجبة الوجود معه، وإما ممتنعة العدم.
أو قد يحصل ما تكون معه بالوجود أولى مع إمكان العدم، وتكون موجودة لمرجح الوجود مع إمكان العدم.
فالأزل قول الجمهور والثاني قول من يقول ذلك من المعتزلة ونحوهم.
وكثير من الناس يتناقض في هذا الأصل، فإذا ابنينا على القول الصحيح فلا كلام وإن أردنا أن نذكر ما يعم القولين قلنا:
الخامس
أن الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر لم يتحقق وجوده، بل لا يتحقق وجوده إلا بما يحقق وجوده.
وحينئذ فإذا قدرنا الجميع ممكنات ليس فيها ما تحقق وجوده، لم يحصل شرط وجود شيء من الممكنات فلا يوجد شيء منها لأن كل ممكن إذا أخذته مفتقرًا إلى فاعل يوجده، فهو في هذه الحال لم يتحقق وجوده بعده فإنه ما دام مفتقرًا إلى أن يصير موجودًا فليس بموجود فإنه موجودًا ينافي كونه مفتقرًا إلى أن يصير موجودًا، فلا يكون فيها موجود، فلا يكون فيها ما يحصل به شرط وجود الممكن، فضلًا عن أن يكون فيها ما يكون مبدعًا لممكن أو فاعلًا له فلا يوجد ممكن وقد وجدت الممكنات، فتسلسل الممكنات بكون كل منها مؤثرًا في الآخر ممتنع وهو المطلوب.