الحمد لله وحده، أما بعد، فقد انتشر قبل يومين الخبر بإعلان شركة OpenAI عن توصلها لبناء أنموذج للذكاء الاصطناعي العام Artificial General Intelligence متمثلا في التحديث الأخير لبوت ChatGPT الذي صدر باسم O3.
وقد انبعث كثير من المفتونين بهذه التكنولوجيا على ادعاء أن البشرية قد توصلت أخيرا إلى صنع الحياة الرقمية Digital life ووضعت الأساس لأول مرة في التاريخ لخلق حاسوب واع بنفسه وعيا حقيقيا Self-awareness كما يوصف به كل مخلوق فيه وعي وشعور ونفس تحب حبا حقيقيا وتكره كرها حقيقيا، وتميل ميلا حقيقيا رغبة ورهبة، وتنبعث على دوافع الأفعال خوفا وطمعا، إلى آخر ذلك من خصال النفس الواعية الناطقة الشاعرة Sentient self. فما الذي أسسوا عليه تلك الدعوى العريضة؟ أن هذا الإصدار الأخير O3 قد أحرز درجة عالية في اختبار من اختبارات التعقل رفيعة المستوى للذكاء الصناعي، يقال له ARC Challenge (Abstraction and Reasoning Corpus). وهو اختبار صممه صاحبه في 2019 لاختبار قدرة آلة الذكاء الاصطناعي على التوصل إلى تمييز الأنماط الصحيحة التي تربط بين أزواج من مجموعات المربعات الملونة على نسق معين.
والواقع أن منظمي ذلك الاختبار أنفسهم قد نفوا ذلك الادعاء، الذي لم يصرح به سام ألتمان المدير التنفيذي لشركة OpenAI بصورة رسمية ولا صرح به أحد من العاملين في الشركة. أعني ادعاء أن اجتياز الأنموذج الجديد لذلك الاختبار على هذا النحو يعد مؤشرا على تحقيق الذكاء العام AGI. لكن من الواضح أن ألتمان وأصحابه قد شعروا بمسيس الحاجة لإثارة تلك الدعاية بصورة ما أو بأخرى، قبل إصدار الأنموذج الجديد، في محاولة لمقاومة دعوى مضادة كانت قد أخذت في الانتشار في أوساط الباحثين في ذلك المجال في الفترة الأخيرة، مفادها أن التحديث الذي أصدر أخيرا للأنموذج ChatGPT 4o لم يحرز أي تقدم ملموس مقارنة بسابقه، على الرغم من الأموال الطائلة التي أنفقها المستثمرون فيه، مقارنة بما أنفقوه على سابقه! وهو ما دعا بعض الباحثين للتشكيك في مستقبل تلك التكنولوجيا (وأعني بذلك مستقبلها الخرافي الذي يرجوه أصحابها)، وانتشار تخمين أو ظن مفاده أن تنكولوجيا الذكاء الاصطناعي قد قاربت على الوصول، أو صلت فعلا إلى سقف لا يمكنها تجاوزه، وهو ما يقال له AI plateauing. وعدم إمكانية التجاوز هنا المقصود بها أن المضي قدما في تضخيم القدرة الحاسوبية وحجم قاعدة البيانات التي تدرب عليها تلك النماذج Scaling up لن يزيد في تطويرها تلك الزيادة المأمولة.
يقول “فرانسوا شوليه” مصمم الاختبار المذكور في تغريدة له نشرت قبل يومين “على الرغم من أن هذا الأنموذج الجديد (يعني O3) مثير للإعجاب إلى حد بعيد، ويمثل قفزة كبيرة في الطريق صوب تحقيق الAGI، إلا أنه لا يزال ثم الكثير من المهام السهلة للغاية في تحدي ARC التي لا يقدر على حلها” بيد أنه أضاف في التغريدة قوله: “ستعلمون أن الذكاء العام AGI قد تحقق فعلا، عندما يصبح تصميم مهام بحيث تكون سهلة على البشر، ولكن صعبة على الذكاء الاصطناعي، أمرا مستحيلا”.
قلت ومن هنا نبدأ نقدنا لهذا المسلك الذي يتخذه القوم طريقا للحكم بأن الآلة قد صارت عقلا بشريا، بل نفسا بشرية كاملة الأركان! فيقال: بأي حجة من العقل أو الحس يصح أن يقال إن الآلة إن قدرنا أن بلغت ذلك المبلغ الذي يشير إليه شوليه من مضاهاة قدرة الإنسان على اكتشاف الأنماط التي لم تتدرب عليها من قبل، واكتساب المهارات الجديدة وكذا، فإنها بهذا تكون قد صارت عقلا بشريا واعيا بنفسه، متحققا بصفات النفس الحية؟ وبأي حجة يقال إنها بذلك تكون قد تحققت فعلا بمعنى الفهم الحقيقي True understanding لجميع تلك العمليات والمهارات والمهام والمباني اللغوية التي تتركب منها، كما هي صفة الإنسان في تعقله وتدبره وإعماله لمهاراته الذهنية؟ لو أني دربت آلة ما على أن تميز شكلا هندسيا معينا مهما رأته في صورة من الصور التي تتعرض لها، على أنه شكل مربع، مثلا، فهل يقال إنها بهذا تكون قد “فهمت” معنى كلمة مربع، كما أن الإنسان يفهمها؟ أبدا! لأن فهم الإنسان ليس عملية حاسوبية مصممة للقيام بمهام معينة، وإن كانت تلك العملية مولدة لمهارات جديدة! هذه بعض ثمرات الفهم الإنساني، وليست هي نفس الفهم من حيث هو حقيقة معينة تقوم بالنفس البشرية! الماكينة تصمَّم بحيث تركب من مجموعات الواحد والصفر حروفا وكلمات مقروءة ومسموعة، بناء على آليات رقمية معقدة، فتكون بحيث إن سمعها الإنسان فإنه يفهم معانيها ويتأثر بها نفسيا ووجدانيا وروحيا وشعوريا وربما ينفعل بها إبداعيا، لأسباب ليست راجعة إلى كود حوسبي معين تجري عليه نفسه في توليد ذلك فيها إذا تولد، مهما كان ذلك الكود معقدا بالغ التعقد، وإنما هي أسباب من شأنها أن تكون هي التي تولد الأكواد في البرمجة البشرية!
وهنا يدخل علماء الحوسبة بالتحكم بالتعريف Arbitrary Definition، كما استعرضته وتكلمت عليه في محاضرتين طويلتين بهذا الشأن من قريب. ما معنى أن أقول إني أفهم كلمة كذا إذا سمعتها؟ أن يكون مربوطا بها في ذهني صورة تجريدية معينة Association with an abstract image؟ ما هو التجريد أصلا Abstraction للمعاني الكلية المشتركة؟ كيف يعمل العقل البشري عندما يستخلص ذلك القدر المشترك المعنوي الذي يكسب الكلمات معانيها عنده؟ عندما تحاول محاكاة ذلك العمل، فغايتك أن تحاكي نوعا أو أنواعا من الثمرات الظاهرة التي تنشأ عنه عند الإنسان، على تلك الطريقة التي مثلها جون سيرل في برهانه المعروف بالغرفة الصينية Chinese room! الرجل داخل الغرفة لا يزيد على أن يأتيه الأمر بأن يخرج مخرجا معينا إذا جاءه مدخل معين! فمهما تعقدت العمليات والإجراءات التي يكون مطالبا بإجرائها حتى يصدر ذلك المخرج، فالآلة في النهاية إنما تعمل كعمله! وهو عمل ليست حقيقته أنه فهم لسلسة من الأوامر المبرمجة فيها سلفا، وبناء “لقرار واع ومسؤول” عليها، وإنما حقيقته أنه إنتاج لشرائط أو سلاسل من رموز بصرية معينة، بناء على خطوات معقدة تؤدي إلى إنتاجها على ذلك النحو. فليس في خطوات تطوير ذلك العمل الآلي التي تمت إلى الآن، والماضية إلى المزيد، ما يمكن أن يكون قد غير من حقيقتها تغييرا جذريا، بحيث يجعلها تتجاوز هذا الوصف الذي ذكرنا بأيما وجه كان! بمعنى أنه ستظل الآلة بحيث تحاكي نواتج الفهم البشري والتعقل البشري، دون أن تكون هي نفسها فاهمة كفهم البشر أو عاقلة كعقل الإنسان! ولهذا بينت في المحاضرتين المذكورتين كيف أن علماء الحوسبة اضطروا اضطرارا لأن يختزلوا معان كلمات كثيرة تتعلق بالعقل البشري وعمله، في أنواع من نواتج العمليات الحاسوبية، أو في جانب ظاهري سلوكي محدود للغاية، من أجل أن يدخلوا تلك الآلة التي هم مشتغلون بتطويرها تحت تلك المعاني دخولا لغويا أوليا، كما سلكه تورينك نفسه!
فما تعريف الذكاء هذا أصلا Intelligence، الذي به استجاز أناس اليوم أن يقولوا إن الأرض ماضية لا محالة إلى ظهور جنس جديد من الموجودات العاقلة هو أعظم تحققا به وتفوقا على الإنسان فيما به تسلط بنو آدم على هذه البسيطة، وهو جنس الماكينات الذكية؟ أن تكون الماكينة بحيث أنك مهما وضعتها أمام مهمة عقلية معينة، أيا ما كانت، فإنها تحاكي أداء الإنسان في إنجازها بل تتفوق عليه، بما في ذلك أن تطور نفسها ذاتيا؟ كل ذلك حقيقته في النهاية أنه محاكاة لمهارات معينة، حتى مهارة توليد المهارات الجديدة والتدرب الذاتي عليها، هذه كلها حقيقتها في النهاية أنها مدخلات رمزية تركب في الماكينة أكواد تجعلها تنتج عند إدخالها إليها مخرجات معينة، في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بحسب طلب من يشغلها ويستعملها! أما أن تكون الآلة بحيث يقوم في داخلها نفس غير مادية لها شعور بقيمة ما تعمل، وبالداعي لإبقاء ذاتها على صفة معينة تحبها وتميل إليها، خلافا لصفحة أخرى تكرهها وتفر منها أو تخاف، فهذا ما لا يكون أبدا، ولا يوصل إليه في آلة حقيقة وظيفتها إنما هي المحاكاة الفظية والرمزية المعقدة! وهذا لسنا نقوله من قبيل الترف الفكري، وإنما نقوله لخطورة مخالفته على عقيدة المسلمين كما بينته في المحاضرتين. فإن خلق الإنسان وصنعه ما يصنع، محال أن يبلغ أن يشتبه بخلق باريه وصنعه، فلا يمتاز هذا عن هذا بأيما وجه كان! قال جل شأنه ((قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) [الرعد : 16]!
فخلاصة الأمر، أنهم إذا كانوا يقصدون بالذكاء الاصطناعي العام AGI، خلق نفس بشرية مماثلة للإنسان من كل وجه، وعلى كل مستوى وعلى كل اعتبار، فهذا محال عقلا، وممنوع سمعا! وأما إن كانوا يقصدون كما قال شوليه هنا: آلة بحيث أننا مهما جئناها بمهام عقلية جديدة، أنجزتها بنفس السهولة التي ينجزها بها الإنسان، فهذا أيضا لا يكون، ولا يبلغ أن يكون محاكاة تامة بحيث يشتبه بسببها خلق الناس بخلق باريهم سبحانه. فلينتبه الشباب إلى هذا المنزلق العقدي الخطير، وليعلموا أنه مهما زعم الناس التوصل إلى خلق نفس بشرية كاملة الأركان، وهو ما ينفقون فيه الأموال الطائلة، ويستهلكون فيه من الموارد المادية ومن الطاقة ما يندى له الجبين، فهم كاذبون في ذلك قطعا، عصمنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله أولا وآخرا.
أبو الفداء