الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله، أما بعد: فقد ثبت بالعقل الصريح والنقل الصحيح أن الله تعالى متصف بصفات الكمال، منزّه عن جميع صفات النقص، قائم بنفسه، واجب الوجود لذاته، غنيٌّ عمّن سواه، وكل ما سواه ممكنٌ مفتقر إليه، لا قيام له إلا به، ولا دوام له إلا بمدده؛ وهذا مقال في نصب الأدلة العقلية على وجوب الكمال للباري.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية في الأكملية:
قد ثبت أن الله قديم بنفسه، واجب الوجود بنفسه، قيوم بنفسه، خالق بنفسه، إلى غير ذلك من خصائصه. والطريقة المعروفة في وجوب الوجود تقال في جميع هذه المعاني.
فإذا قيل: الوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين، فهو مثل أن يقال: الموجود إما قديم وإما حادث، والحادث لابد له من قديم، فيلزم ثبوت القديم على التقديرين. والموجود إما غني وإما فقير، والفقير لابد له من الغنى، فلزم وجود الغنى على التقديرين. والموجود إما قيوم بنفسه وإما غير قيوم، وغير القيوم لابد له من القيوم، فلزم ثبوت القيوم على التقديرين، والموجود إما مخلوق وإما غير مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق غير مخلوق، فلزم ثبوت الخالق غير المخلوق على التقديرين ونظائر ذلك متعددة.
فإذا صح ما تقدم، فنقول: أن الكمال المطلق هو اتصاف بصفات وجودية لا يلزم منها النقص من وجه من الوجوه، فهي زيادة في الوجود؛ وغاية ما يمكن أن يتصف به الموجود. وأما النقص فلا يعقل إلا أن يكون: عدم كمال، أي وصف عدمي مثل الجهل؛ أو وجود منافِ لكمال، بمعنى أن يكون وصفا وجوديا يستلزم عدميا، مثل الألم الذي يستلزم العجز.
وامتناع اتصاف الباري عز وجل بالنقص من وجوه:
الوجه الأول: في بيان أن المعلول لا يكون أكمل من علته
أن المعلول إنما يستفيد كماله من الأكمل منه، فالذي جعل غيره كاملا هو أحق بالكمال منه، والذي جعل غيره قادرًا أولى بالقدرة، والذي علم غيره أولى بالعلم، والذي أحيا غيره أولى بالحياة. لأن النقص لا ينتج الكمال، وقد تقدم ان النقص وصف عدمي أو مستلزم لعدمي، فلازم قول من يقول بأن الواجب ناقص، وأنه العلة التامة للممكنات: أن النقص باعتباره غياب الكمال أنتج الكمال، فيكون عدم الشيء مسببا لوجوده، فينتج العدمي الوجودي = وهو باطل في بداهة العقول.
الوجه الثاني: في بيان ملازمة النقص للإمكان
نقول وبالله التوفيق: (أ) كل ما تقبل صفاته الذاتية العدم فهو ممكن. (ب) كل ناقص تقبل صفاته الذاتية العدم. (أ) + (ب) = إذن، كل ناقص ممكن.
بيان (أ): أن ما يصدق على ذات الواجب من المعاني: إما أن الذات تقتضيه أو لا، على الأول يثبت وجوبها وهو المطلوب، على الثاني تفتقر الذات في حصول ذلك المعنى إلى غيرها. فإن قيل: لم لا يكون المرجح داخل الذات لا خارجها؟ قيل: يلزم أن تكون صفاته الذاتية معلولة لصفاته وهو دور ممتنع؛ وإن جاز الإمكان في بعض الصفات [المعاني التي تصدق على الذات] جاز في جميعها، لعدم الفارق المؤثر.
بيان (ب): بيانه بالخلف؛ أن النقص بالتعريف غياب للكمال، فلو لم يقبل الناقص أن يكون أكمل لزم أنه غياب كمال ممتنع، والكمال وجودي والممتنع ليس بشيء، وهذا تناقض؛ فعُلم أن أن أي معنى هو نقص قابل للعدم ضرورة. وقد يقال: أنه يلزم على فرض وجوب النقص تناقض مع مسمى النقص نفسه، الذي يلزم من مجرد انطباق مسماه جواز وجود حالة هي أكمل في عوالم الإمكان، وإلا فقد النقص معناه.
ومن ثم فالواجب لا يكون إلا في منتهى الكمال والله الموفق.
الوجه الثالث:
الكمال (الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه) إذا كان ممكنًا لموجودٍ ما، فإما أن: يكون ممكنًا لواجب الوجود، أو يكون ممتنعًا عليه. إن قيل: هذا الكمال ممتنع على واجب الوجود، لزم أن يكون الموجود من حيث هو غير قابل للكمال. فإذا لم يكن الواجب قابلاً للكمال، فالممكن أولى بعدم القبول، لأنه أضعف منه وجودًا وافتقارًا. لكن هذا باطل؛ لأن الواقع يشهد بوجود موجودات (ممكنة) تتصف بكمالات. إذن، لا يصح القول بأن الكمال ممتنع على واجب الوجود، بل هو ممكن له.
إذا ثبت إمكان الكمال، فهذا الكمال الممكن، إما أن: (أ) يكون لازمًا للموجود (بحيث لا يكون إلا متصفًا به). (ب) يكون جائزًا (يمكن أن يتصف به أو لا يتصف به). فإن كان جائزًا، لزم احتياج الموجود إلى مرجّح خارجي يرجّح اتصافه به. فتعين اتصاف الله تعالى بصفات الكمال، وأنها لازمة له.
الوجه الرابع: في لزوم الشك في العقل
أنه على هذا التقدير يلزم الشك في العقل، فمن جوَّز أن يكون الخالق ناقصًا، فقد جوَّز أن يكون جاهلًا بخَلقه، عاجزًا عن تدبيرهم، خاليًا من الحكمة والعدل والرحمة، بل جوَّز أن يكون مُضلِّلًا لهم، يُريهم الباطل في صورة الحق، ويُلبس عليهم الأمور حتى لا يهتدوا إلى صواب، ومن جاز عليه هذا، لم يبق له وثوقٌ بعقلٍ، ولا اعتمادٌ على فكر، ولا سبيل إلى يقين.
وهذا لازم كل من لم يؤسس معرفته على الإيمان بإلهٍ كاملٍ في ذاته وصفاته وأفعاله. لأن المعرفة لا يمكن تأسيسها إلا انطلاقا من القول بامتناع ما لو وُجد للزم الشك في العقل، مثل إله شرير أو شيطان ديكارت؛ ومن لا يثبت إلها كاملا ليس له ما يبرر به القول بهذا الامتناع، إذ لا بد من تعليله بمسبب وجودي أنطولوجي في الخارج، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح.
فها هنا امتناع ابستمي (أننا غير مخدوعون) -> أدى إلى امتناع أنطولوجي بالغير -إذ لا امتناع ذاتي- (وجود ما يخدعنا)، فلا بد من إثبات سبب كافي sufficient reason لهذا الامتناع. وإن لم يكن: لزم القول بالإمكان والتكافؤ، وإذا كان الأمر كذلك، فقد تساوى ابستمولوجيا وجود هذه المخادعات وعدمه، ومن ثم لزم الوقف في صدق العقل والحس، فينسد باب المعرفة. فإن بلوغ الحقيقة متوقف على صحة العملية الإدراكية، وصحة هذه الأخيرة متوقفة على شروط خارجية ممكنة، فمتى ما لم يمتنع أن لا تكون الشروط على النحو الصحيح الذي يؤذي إلى صحة العملية الإدراكية، كان الوقف في صدق المعارف لازما وإلا انخرم الاتساق الابستمي-الأنطولوجي عند المخالف.
وإن قيل: بأن ما قررنا دور، أجيب: بأنه دور اقتراني جائز، كما لو قيل: العلم بامتناع جمع النقيضين متوقف على العلم بمبدأ الهوية، والعلم بمبدأ الهوية متوقف على العلم بامتناع الجمع بين النقيضين.
وهذا – أكرمكم الله تعالى – منتهى الكلام في هذا الباب، ولباب العقول والألباب، ومترع في المسألة من التحقيق والتدقيق، يشهد له كل منصف بالصواب.