فلسفة العلوم

النظرية العلمية، بين الواقع المحسوس والتفسير النظري

في قولهم: كيف تسقطون الاعتقاد الوجودي في نظرية ما، ومع ذلك تقبلون معادلاتها؟؟

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، لا سيما الحبيب المصطفى، وآله وصحبه المستكملين الشرفا، أما بعد، فقد يتساءل بعض المتابعين فيقول: كيف يجتمع للمرء أن يقبل معادلات نظرية فيزيائية معينة ويستعملها وينتفع بها، معتقدا موافقة تلك المعادلات للواقع، مع أنه يرد التصور الوجودي أو الأنطولوجي أو الميتافيزيقي في النظرية، الذي تقوم عليه تلك المعادلات نفسها؟
فنجيبه بحول الله تعالى ونقول: يُتصور ذلك ولا شك، بل إنه يكون هو الموقف الحق المتعين في بعض النظريات. وينجلي الإشكال إذا استحضرنا حقيقة أن المعادلات الرياضية في النظرية الفيزيائية إنما هي نمط ذهني مصطنع في العقل من أجل أن يحاكي نمطا واقعيا لبعض الطبائع، كما هو واقع تحت الحس والعادة. هذا النمط الواقعي في الأعيان، يتعذر علينا غالبا أن نبني الأنموذج الذهني الرياضي المحاكي له من دون أن نفرض له تصورا قياسيا ما، لكيفيته وحقيقته. فإذا تمكنا من بناء الأنموذج الرياضي بحيث يكون على قدر كبير من دقة المحاكاة للنمط الطبيعي المطرد محل البحث، ووجدنا تلك المعادلات نافعة وقائمة بالمطلوب في التنبؤ بذلك النمط، لم يلزم من ذلك أن يكون التشبيه أو التصور القياسي الذي فرضناه وأسسنا عليه ذلك الأنموذج، مطابقا للواقع. بل يتصور في العقل أن يمتنع الترجيح بين ذلك التشبيه أو القياس وخلافه مما يفرضه الناس في نفس الأمر، من طريق الحس والعادة والمشاهدة، مهما كانت المعادلات المبنية عليه محاكية للواقع موافقة له في تطبيقاتنا. لماذا؟ لأنه كما ذكرنا، يبقى مجرد تشبيه يفترض افتراضا لمصلحة بناء أنموذج رياضي محاك للواقع محل البحث.
وكما يقال، فبالمثال يتضح المقال. كان نيوتن يتصور الجاذبية على أنها قوة منقولة على حبل خفي بين جرمين يجذب كل منهما الآخر، بحسب كتلته. ومع أنه لم يكن يراه “تشبيها” للواقع محل البحث، إلا أن هذه هي حقيقته بقليل من التأمل. فالرجل لم تنكشف له حقيقة العامل الغيبي الخفي الذي ينشأ عنه ذلك الطبع المطرد في عادتنا، الذي به تظهر الأجرام على أنها تتجاذب، وإنما فرض فرضا أن يكون كذلك. وضع ذلك التشبيه أو القياس ثم طرده ميتافيزيقيا في جميع الحالات المشابهة للعلاقة الحركية بين جرمين، واستعمله في بناء معادلة الجاذبية المشهورة، التي لم يزل الفيزيائيون يستعملونها إلى اليوم، مع أنهم لا يتفقون معه في القياس نفسه، أي في تصوره الوجودي أو الأنطولوجي لحقيقة الجاذبية. فهم الآن يرونه مخطئا في تصويره لحقيقة الجاذبية، ومع ذلك لا يمانعون من استعمال معادلاته في نمذجتها والتنبؤ بها. فلماذا جاز ذلك؟ لأن التصور الأنطولوجي – بهذا المعنى – إنما هو في واقع الأمر قياس أو تشبيه أو تمثيل، تبنى عليه نماذج المحاكاة الرياضية بحيث تشبه النمطيات والنظاميات المطردة محل البحث إلى أبعد حد ممكن. لهذا تظل المشابهة قائمة ونافعة للناس عند استعمال المعادلات، مهما كانت حقيقة الظاهرة محل البحث مغايرة للتشبيه واقعيا.
وقد مثلت لذلك في محاضرات “بيان منهج أهل السنة في التجريبيات” بمثال العميان وخرطوم الفيل. فقلت لو تصورنا قوما لا يبصرون، وقد اتفق لهم أن تحسسوا فقبضوا بأيديهم على خرطوم فيل وهو يتلوى، فقال بعضهم، هذا حبل متدلي يحركه أحدهم من أعلى، ثم فرض أن يكون الحبل مصنوعا من مادة معينة لها مرونة معينة، من أجل أن يضع معادلة تصف تلوي الحبل وانثناءه بناء على ما تجيزه مرونة تلك المادة أو الخامة المعروفة له. ومن ثم تحصّل على معادلة تمكنه من التنبؤ بنمط انثناء والتواء “الحبل” بنسبة احتمالية قوية إلى حد أنه لا يكاد يخطئ عند استعمالها. ثم خرج رجل آخر من أولئك العميان، وجاء بنظرية أخرى قال فيها: بل هذا ثعبان يتلوى، بدليل أني رصدت له حركات تدل على أن ثمة محركا ما في داخله، ومن ثم نظر في فيسيولوجيا الثعبان وما يجوز أن يقع منه من حركات وانثناءات، وقارن ذلك بما بين يديه، ثم وضع معادلة بناء على تلك المعطيات، للتنبؤ بانثناءات “الثعبان”، وضبطها بما يوافق ما ينتهي إليه حسه وعادته من القبض على ما بين يديه، تماما كما فعل سابقه، فخرجت موافقة للواقع إلى حد كبير، وهو يرى أنها أعظم موافقة من نظرية الحبل، لأنه يرى أن بعض الحركات لا “تفسر” إلا بأنها تنشأ عن محرك داخلي (وإن كان أصحاب نظرية الحبل قد فسروا تلك الحركات نفسها على ما يوافق نظريتهم). والقصد أنه بصرف النظر عن حقيقة أن كلتا النظريتين قد خالفتا الواقع وحقيقة الأمر، إلا أن كلتاهما توافقان الواقع في حدود المحاكاة الرياضية، إذ تعظم المشابهة بين الأنموذج الرياضي وبين النمط الواقعي الذي وضع الأنموذج ليحاكيه في كل منهما. فإذا فككنا النظرية الواحدة منهما إلى عنصرين كليين: عنصر القياس الوجودي الذي بنيت عليه المعادلات، وعنصر المعادلات والنماذج نفسها التي بنيت لمصلحة أن توافق النمط المشاهد المعتاد المراد تفسيره وتتبعه والتنبؤ به (وهو في هذه الحالة تلوي خرطوم الفيل)، لم يلزم من صحة المحاكاة الرياضية وقيامها بالمطلوب في أي من النظريتين، صحة القياس الوجودي (أو التصور الأنطولوجي أو التشبيه الكلي) الذي أسست عليه تلك المعادلات نفسها! فسواء اعتقاد صاحب نظرية الثعبان واعتقاد صاحب نظرية الحبل، إذ كلاهما صاحب تشبيه في الحقيقة، وهو تشبيه لا يتجاوز به صاحبه القدر الذي وقع له تحت عادته وحسه إلا وقع لا محالة فيما لا يملك أن يرجح فيه قولا على قول ولا تشبيها على تشبيه، اللهم إلا بما ينشأ لديه عن التشبيه نفسه من نماذج رياضية محاكية للواقع، يقول هذه أسهل في الحساب أو هذه أيسر في التطبيق، فيرجح بذلك بين النماذج ترجيحا أداتيا محضا Instrumentalist Preference، مع بقاء التشبيه الوجودي الذي تقوم عليه النظريات نفسها غير قابل للترجيح من طريق الحس. هؤلاء العميان لا يقدرون على الحكم فيما إذا كان ما بين أيديهم ثعبان حقا أم حبل حقا، ولا يصلون إلى ذلك من طريق المشاهدة: Observational Equivalence وهو ما يقال له Underdetermination by Observation. ومع ذلك، تبقى النظريتان نافعتين في حدود المحاكاة الرياضية ولا إشكال.
ولهذا قلنا في نقد النسبية الخاصة – مثلا – إننا نرد أنطولوجيا النظرية وتعاريفها وحدودها الميتافيزيقية في حقيقة الزمان والمكان والتزامن وثبات سرعة الضوء والإطار الإسنادي .. إلخ، بل نرى فيها محض المغالطة والخلف العقلي، ومع ذلك، لا نرى أن هذا يلزمنا بإسقاط تلك المعادلات التي يجري عليها تطبيق الناس للنظرية، بل قد تمكنا في كتاب المعيار بفضل الله تعالى من بيان أن المعادلات نفسها يمكن إجراؤها على تصورات أنطولوجية أخرى، منها تصور لورتنز نفسه صاحب معادلات التحويل ومعامل غاما التي هي لب النسبية الخاصة. فإن لورنتز نفسه لم يبن تلك المعادلات على نفس التعريفات التي حمل أينشتاين تلك المعادلات عليها فيما بعد، بل كان تصوره لحقيقة الانكماش الطولي الذي فرضه في معادلته على خلاف تصور أينشتاين بالكلية، كما بسطت الكلام عليه في المعيار.
فالقضية في الحقيقة أدق من أن تعامل بتلك المعاملة السطحية الساذجة التي ينتهجها المخالفون في الرد علينا، يقول قائلهم بخفة عقل لا يحسد عليها: “أليس هذا هو الذي يرد النسبيتين ويكذب بالثقب الأسود؟”، والله المستعان لا رب سواه.
وكتب أبو الفداء ابن مسعود
غفر الله له

منقول من قناة إقناع

قناة إقناع غير مسؤولة عن نقل منشوراتها إلى هذا الموقع ، إنما هو عمل فردي من إدارة موقعنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى