بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبة ومن والاه، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وأحكم صنعهما وجعل خلقهما آية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، الحمد لله القائل: ((الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4))) [الملك].
أما بعدُ:
أصبحنا نسمع بين الحين والآخر عن أبناء المسلمين يلحدون أو يتأثرون بأطروحات الاتجاه الدهراني الطبيعي لأن بعضهم شاهد بعض الوثائقيات وقرأ بعض الكتب عن نشوء الكون وغيرها من المواضيع المثيرة عن الكون وأسراره، لقد أفاض كهنة الدين الدهري ما لا تحتمله عقول العامة من وثائقيات وأفلام وكتب بل أغرقوا العالم بتعاليمهم فأصبحت عقائدهم الغيبية “الخرافية” علمًا فاستباحوا العلم التجريبي واغتصبوه منهجيّا وحقنوه بمسلماتهم، فأصبحت خرافاتهم هي الخيار العقلي “زعموا” لكل من أراد أن يمتلك عقلًا عصريّا يستحق أن يعيش بالحضارة العالمية الحديثة وكل شيء ما دون ذلك خرافة حتى سقط الكثير من بني جلدتنا في حفرهم دون تأسيس علمي منهجي ولا تحقيق وتمحيص لأطروحاتهم منهجيّا ومن أصل المسلمات والإطلاقات التي بنيت عليها الدهرانية العلمية، وأصبح الخيار العقلي الوحيد في نظرهم هو تسليم الأعمى المقلد لكل ما تطرحه الأكاديمية الغربية الطبيعانية الحديثة الغالية، ومنهم من جعل الدين تابعًا فأعتدى على نصوص الوحي فحرفها على استحياء أو “بدون” لتوافق خرافات الملة الدهرية.
هذه السلسلة التي نسأل الله أن ينفع بها سنحاول أن نبين بها خرافات الدهريين ونفكك أصولهم ونضعها في ميزان الوحي والعقل الصحيح الصريح على الملأ ونبين عوار منهجهم الذي أضل خلقا كثيرا وأخرج أجيالا ضائعة تائهة في بحر لا قاع له ولا ساحل، وسيكون التركيز أكثر على ما ينشروه عن الكون وبدايته.
مقدمة:
الكثير من بني جلدتنا عندما يقرأ عن مكتشفات القوم بما زعموا بأنهم علموه من أسرار هذا الكون يظن أن ما اكتشفوه هو الحق الذي لا مرية فيه وبأن القوم وصلوا لدرجات عالية من اليقين الذي لا شك فيه، ولكن هذا كله نتاج الإعلام الدهري التبسيطي وما يريدون بثه بين العامة، الناظر والفاحص لما ينشره الدهريين سيجد أن ما يتكلموا عنه من مكتشفات بداية الكون وما وراء الغيب ليس أكثر من محض تحكم ورجم بالغيب يعترف أكابر منظريهم بأنه لا يبلغ أي درجة من درجات اليقين إنما الأمر كله أنها نماذج وتصورات مبدئية على شرط المنهج الدهري الطبيعي كما اعترف بذلك شون كارول وروجر بينروز في مناظرتهما مع الفيلسوف النصراني ويليام لين كريغ وهذا ما سيأتي بيانه بعون الله.
حتى يفهم القارئ الكريم ما نقول عليه أن يدقق بمسلمات الملة الدهرية التي تقوم عليها كل نظرياتهم وتوقعاتهم من الأصل، فهم تلك المسلمات سيوضح كيف وصل القوم لما وصلوا إليه من ضلال عريض وطبقات بعضها فوق بعض من الخرافات الغيبية “الكوزمولوجية وسيفهم القارئ الكريم ما زعموه بأن العلم التجريبي يقود للإلحاد، وقد كذبوا والعلم التجريبي منهم بريء إنما هم قادوا العلم التجريبي للإلحاد عندما غمسوه في الطبيعانية.
مسلمات الملة الدهرية:
الملة الدهرية تقوم على ست مسلمات سنتكلم عن ثلاثة منها فقط لأنها ما يهمنا لبيان ضلال هذه الملة.
المسلمة الأولى: الكون قائم على مجموعة من الأسباب والمسببات فكل حادث له سبب،
هذه المسلمة إلى الآن نسلم بها بل هي من قطعيات العقل السليم وما أجمع عليه المسلمون قولا واحدا، ولكن الملة الدهرية أضافت على هذه المسلمة وقالوا أن جملة الأسباب التي نعرفها بالشاهد تطرد على كل الوجود مكانا وزمانا وعليها ينفي الدهري وجود الغيب ويكفر به، وهذا يعني أن ما نعرفه من قوانين في الشاهد من العالم من طبائع الأشياء وتأثيرها على بعضها البعض التي هو بالنسبة لنا ظواهر معتادة “طبيعية” تطرد على كل الوجود من حيث كونه وجود أيّا كان بلا تفصيل، فعند القوم كل جزء من الكون علمناه أم لا يزال غيبا كل ذلك يلتزم بمجموعة الأسباب التي نعرفها، وهذا ما يسمى بمجموعة الأسباب المغلقة أو الكون المغلق سببيا.
هذه الإضافة الفاسدة “وهي التساوي في البنية والتركيب والطبائع” تبين لكل صاحب عقل أنها سببا لكفر المتلبس بهذه الملة بالغيب، وأنها ليست مسلمة علمية بل هي نفس الاعتقاد الدهري تم جعله مقدمة بشكل تحكي لأي نظر تجريبي علمي، فكما هو معلوم أن أساس الاعتقاد الدهري أنه كافر بالغيب الذي يحتمل أن يخالف الشهادة من حيث الطبائع والنظم السببية التي تخضع لها وقد خالف أصل عظيم من أصول الإيمان بالباري جل شأنه, المؤمن يسلم بالغيب ويؤمن به ويعلم أن ما وراء هذا العالم غيب محض وأن رقعة جهله أكبر بكثير من رقعة علمه، لهذا لا عجب أن ترى الدهري أو المتلبس بالدهرية من أبناء جلدتنا يسخر من أخبار الغيب بل ويكفر بها ولا يقبل إلا بأن يقيس الغائب على الشاهد هكذا بإطلاق من دون حد ولا قيد ولا أساس استقرائي معتبر، وهذا حتى تراه في كل العلوم وليس فقط العلم المختص بدراسة الكون.
الذي أضاف هذه الإضافة هو نفسه متناقض لأنه أضافها بلا دليل، بل فعل ذلك بمحض التحكم، وإلا فما أدراه بأن كل ما لم يراه يخضع لنفس جملة الأسباب التي نعلمها بالحس والواقع والعادة؟ فهذا أراد أن ينفي الغيب ووقع بالإيمان بمسلمة غيبية فقد ناقض نفسه من حيث لا يدري، إنما فعل ذلك بمحض الهوى والتحكم حتى ينفي خبر الوحي ويعانده ويقول لا حاجة لنا بخبر الوحي!
المسلمة الثانية “التساوي الزماني المطلق أو مبدأ التماثلية” وهي تابعة للمسلمة الأولى
وهي تقضي بأن جملة الأسباب هي نفسها مطردة في الماضي بلا بداية، وتقضي بأن جملة الأسباب هي نفسها مطردة في المستقبل.
المسلمة الثالثة “التساوي المكاني المطلق”
وأيضًا واضح كونها تابعة للاعتقاد الدهري، بل هي أحد أكبر مسلماته، وهي أنك مهما اتجهت في أي اتجاه الى ما لا نهاية فلن تجد إلا ما يشابه ما نشاهده ونعتاده في الطبيعة من طبائع الأشياء وجريانها على نفس النظاميات السببية الموصوفة والمشهودة في القدر المشاهد المجرب من العالم والذي هو حدود العادة والاستقراء عند أي عاقل غير الدهرانيين الطبيعانيين!
إذا هذه الثلاث مسلمات تقضي بأن جملة أسباب الشاهد التي نعلمها هي كل ما في الوجود من أسباب سواء كان ذلك في الماضي أو المستقبل أو في الحاضر في أي مكان في الكون مهما بعد أو قرب ومهما كان خفي عنا وعن مراصدنا، وهذا ما يسمى بالكون المغلق سببيا.
هذا الكلام كما تقدم لا دليل عليه أصلا لا من العلم التجريبي لعدم قابليته للتجريب، بل لاستحالة تجريبه وهذا الكلام يناقض العقل الصحيح، فما أدرى الدهري بأن جملة الأسباب كانت نفسها في الماضي بلا بداية “مما فيه تسلسل ممتنع كما هو واضح” أو أنها ستبقى نفسها في المستقبل “بلا أي تغير إلى الأبد مبدئيّا” أو حتى أنها نفسها في كل مكان في الكون؟ هذا ليس إلا محض تحكّم، بل أن هذه تقريرات غيبية تلزم أصحابها بأنهم يعتنقون دينا سابقًا على التجريب الطبيعي بخلاف دينه!
الكفر بالغيب أمر ضروري عند الملة الدهرية، بل هي السلاح الأول لمحاربة الإيمان بالله، ولا يليق بمسلم أن يسلم بما بنوه على هذه المسلمات من نظريات تحكي قصص خيالية تشابه قصص ما قبل النوم حول الغيب، والمصير، والمبدأ والمعاد!