كان الحديث في الجزء الأول عن نظرة اليونان للعقل كخاصية جوهرية في الانسان، وذات قائمه به، وهي حقيقة وجوده وما زاد عنها وهم وخيال ويمكن تغيره وإعادة صنعه وتشكيله، وبينا كيف أدت هذه النظرة عند من ورثها عنهم إلى لوازم ومذاهب تستقبحها فطرة الانسان السوي، من لواطية وبيدوفيليا وغيرها من مظاهر الانحطاط…
وعلة هذا هو محاولة القدماء ” أنسنة الإله” بقياس الشمول والتمثيل العقلي، إيمان منهم أن العقل جزء من العقل المتشرك الإلهي فهو قادر على إدراك حقائق الموجودات، وهذا أصل الكفر والوثنية والشرك، فيضعون النظريات ويجعلونها عامة مطردة في الوجود، فأدخلوا الإله في قياس التمثيل والشمول وقاسوا صفاته على صفات الانسان وحقيقته… فإستوى الانسان والإله في عقلهم، فكان لازم هذا أن ينقلب الأمر في ما بعد الحداثة من ” أنسنة الإله” الى ” تأليه الإنسان”، فأصبح هو المشرع الذي يضع “log” القوانين، ويحكم العالم على ما أراه هواه.
وحقيقة الأمر أنهم تجاهلوا « وحدة الإنسان في تكامل أوصافه وتداخل أفعاله.»¹ فقولهم بجوهرية العقل وموضوعيته، وأنه متربع في السماء فوق الأهواء والشهوات والميول اللاواعية او العواطف والمشاعر هذا التصور الذي جذوره تمتد الى قدماء اليونان كما سبق البيان، فتجد من تأثر من ذوي جلدتنا بقولهم يستشنع أسلوب القرآن الكريم في الترغيب والترهيب، ولا يعلم أن الانسان فيه نزعات وأهواء ومشاعر ولذلك فالتفكير العقلي « متجسد ( قائم في الجسد) وغالبا تخيلي ومجازي²» ولهذا إعتنى القرآن بالقصص وضرب الأمثال وبالترهيب تارة والترغيب أخرى، فهذا أليق بطبيعة الإنسان وفطرته من التبن الجاف الذي أكله أتباع أرسطو.
لهذا لم يكن العقل عند المسلمين جوهرًا قائمًا بذاته، يحدد ماهية الانسان وحقيقة وجوده. يقول شيخ الإسلام إبن تيمية -رحمه الله- « اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء انما هو صفة »³ ويقول ايضا: «والعقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا وهو أيضا غريزة في الإنسان فمسماه من باب الأعراض لا من باب الجواهر القائمة بأنفسها وعند المتفلسفة مسماه من النوع الثاني.»⁴
فالعقل ” صفة” و ” عرض” وهو تابع للجسد وليس مستقل عنه او حاكم فيه، فهو مجرد فعل ووظيفة تقوم بها أداة جسدية وهي القلب او الدماغ، لقول الامام البخاري « المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}»⁵ اي ان العقل بنسبة للقلب « بمنزلة قوة البصر التي في العين». ⁶« وقد خلق القلب لأن يُعَلَمَ به، فتوجهه نحو الأشياء إبتغاء العلم بها هو الفكر والنظر، كما إقبال الأذن على الكلام إبتغاء سمعه هو إلاصغاء والاستماع، وانصراف الطرف الى الاشياء طلبًا لرؤيتها هو النظر. »⁷
ويقول ابن تيمية أيضا « مبدأ الفكر والنظر في الدماغ»⁸
فالمسلمين – ليس كما اليونان والغرب ومن تابعهم- عندهم العقل ليس ذاتا او جوهرا تتحدد به الهوية او تقوم به الافعال والصفات، وانما هو فعل وصفة غير منفصل عن باقي صفات الجسم الانساني من بصر وسمع وغير ذلك.
لهذا رد ابن تيمية على الفلاسفة -مقلدة اليونان- قائلا إن «العقل عندهم هو المجرد عن المادة وعلائق المادة، والمادة عندهم هي الجسم» ⁹ ثم يقول « وما يذكرونه من دليل على إثبات جواهر عقلية انما يدل على ثبوتها في الاذهان لا في الاعيان» ¹⁰
«فالعقل إذا ليس فقط عملية إنشاء وإصدار تصورات وأحكام منطقية على النمط الأرسطي، وإنما هو نشاط يلاحظ المنافع والمضار، ويقدر المصالح، ويعتبر الأخلاق والحسن والقبح، وكل هذا من لوازم كونه قائما بالإنسان. ليس هذا فحسب، بل إن صلة العقل بالجسد ككل صلة وطيدة، فإن العقل – في حدود طاقته – يلتمس حاجات الإنسان كلها: بيولوجية وفسيولوجية ونفسية، ويتصل بها ويتفاعل معها بلا انقطاع. فصلة العقل بسائر الجسد غير متصورة مع تصور العقل على أنه جوهر بائن مستقل بذاته، وإنما تتصور مع تصور العقل على أنه امتداد للنفس وجزء منها وفرع عنها. »¹¹
وهذا يعني ان تعريف الانسان بأنه ” حيوان عاقل” لا يتوافق مع لغة المسلمين، وانما هو ناتج عن لغة القوم كما سبق البيان في الجزء الاول. وهذا يدفعنا لنسأل : ما هو الإنسان في العربية والإسلام؟
– الانسان ” المفتقر للأنس”.
الإنسان في اللغة العربية له دلالة مختلفة، إذ الانسان من الاصل ” ا ن س” ؛ ومن هذا الاصل تتفرع عدة معاني، فالْأَنَسُ ضِدُّ الْوَحْشَةِ، وهي بمعنى الألفة والمحبة والمواساة وسكن القلب، فسمي إنساً لاُنسه؛ لأنه يأنس بنوعه، ويأنس بغيره، ويأنس به غيره.
لهذا فسر إبن كثير قوله تعالى -بعد بسم الله الرحمن الرحيم- : { ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( 1 )}
«يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم ، عليه السلام ( وخلق منها زوجها ) وهي حواء ، عليها السلام ، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه»
ويقول الزمخشري: «ولبس المؤنسات أي الأسلحة لأنهنّ يؤنسنه ويطامن قلبه.»¹²
وهكذا فخاصية للإنسان هي “حاجته للأُنس”. ويكون بذلك تعريف الانسان : حي مفتقر لمن/ لما يؤنسه.
إننا الان بصدد صك مفهوم فلسفي جديد للإنسان و كثيف الدلالة، يقلب الفلسفة رأسًا على عقب. وهذا التعريف الذي صُغته، لا يتعارض مع تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الإنسان: حساس متحرك بالإرادة.¹³
لأن من المعاني المتفرعة عن أصل ” ان س”، معنى “الإحساس”
اذ تقول العرب ” آنَسْتُ: إذا أحْسَسْت شَيْئاً.” ومنه قول الله عز وجل عن موسى عليه السلام {إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} اي ابصرت كما قال البغوي ونقلها القرطبي عن ابن عباس وغيره.
و فِي حَدِيثِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ «فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا» أَيْ أبْصَرَ ورَأى شَيْئًا لَمْ يَعْهَده.
وجاء في مختار الصحاح للرازي « وَآنَسَ الصَّوْتَ أَيْضًا سَمِعَهُ»
ومنه الْحَدِيثُ «أَلَمْ تَر الْجِنّ وإبْلاَسَها، ويأسَها مِنْ بَعْدِ إِينَاسِهَا» أَيْ أَنَّهَا يَئِسَتْ مِمَّا كَانَتْ تَعْرِفُهُ وتُدركه مِنِ اسْتِراق السَّمع ببعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالأنس مرتبط بالإحساس، والانسان يحس بالضر/ الألم و بالنفع/ اللذة، يريد الانسان ما يوافق نفعه ومصلحته ويتحرك نحوه، او يتحرك بإرادته الى ما يدفع عنه الضر والألم.
ومن هنا دبج إبن تيمية تعريفه بأن الإنسان « حساس متحرك بالإرادة »
وقولنا: الإنسان مفتقر لمن/ لما يؤنسه، لا يخالف هذا؛ فالمفتقر للأنس يريد ثم يسعى لما يؤنسه، وما يؤنسه هو ما فيه نفعه ومصلحته.
ان هذه الحاجة فطرية ومتجذرة في النفس الإنسانية، لهذا خلق الله عز وجل رحمة بهذا المخلوق من يؤنسه ليحقق إنسانيته من خلال الاخر. فخلق له زوجه { لتسكنوا } وخلق له البنون { زينة الحياة الدنيا} ، وربطه بالمجتمع { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}
رتب هذه العلاقات بالشرائع حتى نحافظ على المواساة بيننا ( هو ما ينفعنا)، ولا يكون ظلم أو جور ( وهو ما يضرنا)، فشرع الزواج والميراث وأوصى بمواساة اليتامى والمساكين، { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}
وقد قيل إن الإنسان من النسيان، فسمي ناسًا لأنه نسى، وروي ذلك عن ابن عباس ومثله عن سَعِيد بن جُبَير أنَّه قال: إنما سُمَّى الِإنسانُ إنسانًا، لأَنّه نَسِى، يعني قَولَه تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}.
ومثله قول الشاعر :
نَسِيتُ وعْدَك والنِّسْيانُ مُغتَفرٌ … فاغْفِر فأَوَّلُ ناسٍ أَوَّلُ الناسِ
وفعلا النسيان صفة ملازمة للإنسان في القرآن في غير موضع. فلقد عاهد الله الانسان على توحيده وعبادته، فلما اتوا إلى الحياة الدنيا نسوا ذاك فأرسل للناس المرسلين مذكرين بالعهد. وهذا لا يتنافى مع ما قررناه؛ اذ من ينسى شيئًا سيجد في نفسه حاجة إلى تذكره ولا تأنس نفسه ولا تطمئن او تسكن، حتى يتذكر ما نسى. ومن هنا كان التوحيد موافقًا للفطرة.
ومن اعرض عن الذكر له معيشة ضنكا، يبقى في تيه واغتراب وحسرة، لا يعرف حقيقة وجوده ولا غايته، فيكون ظلوما جهولا.
– فطرة التوحيد والأنس بالله.
والأنس ضد التأبد، والتأبد هو التوحش، ويقال – في معجم لسان العرب- «أَبَدَت البهيمةُ تأْبُد وتأْبِدُ أَي تَوَحَّشَتْ. وأَبَدَت الْوَحْشَ تأْبُد وتأْبِدُ أُبوداً وتأْبَّدت تأَبُّداً: تَوَحَّشَتْ. والتأَبُّد: التَّوَحُّشُ. وأَبِدَ الرجلُ، بِالْكَسْرِ: تَوَحَّشَ… وتأَبد الْمَنْزِلَ أَي أَقفر وأَلفته الْوُحُوشُ… جاءَ بِآبِدَةٍ أَي بأَمر عَظِيمٍ يُنْفَرُ مِنْهُ ويُستوحش. وتأَبَّدت الدَّارُ: خَلَتْ مِنْ أَهلها وَصَارَ فِيهَا الْوَحْشُ تَرْعَاهُ”.» ، فالفرد عندما يغادر الجماعة الإنسانية وينفرد في الطبيعة، يسمى متأبدًا أي متوحشا، لهذا نعبر نحن العرب بالبعد عن الوطن او عن الاحباب الذين يؤنسوننا، نعبر عن هذا الإغتراب ب” الوحشة”.
يقول رضا زيدان : «فالمادة (أ ب د) تدور حول (1) معنى التخليد أو الزمن الطويل، (2) معنى التوحش. فما هو الرابط بين المعنيين؟
إن التوحش هو الخروج عن الحالة الطبيعية للكائن أو البيئة، فعلى مستوى الكائن فإن الحالة الطبيعية للإنسان هي وجوده في مجتمعه وقبيلته، كما أن الحالة الطبيعية للحيوان بعامة هي وجوده في قطيعِه، فـالعزلة هي حالة توحش للكائن، وعلى المستوى البيئي فإن الحالة الطبيعية للمكان هو وجود أهله، وبغيابهم يتوحش، فاندثار علامات الديار هو حالة توحش لهذه الديار، وهذا واضح في موضوع رئيسي من موضوعات الشعر الجاهلي: الوقوف على الأطلال. ما هي الكلمة العربية التي تعبر عن “الحالة الطبيعية للإنسان” تحديدًا؟ إنها كلمة “تأنّس”. هنا نلاحظ مباشرة التقابل بين ما هو إنساني اجتماعي (تأنّس) وما هو برّي منعزل (تأبّد).» ¹⁴
ان الطبيعة في المنظور العربي تمثل الديمومة والأبدية، اذ الأنس فاني وما ينتج عنه أيضًا زائل، من قبائل وحضارات ودول، فالأنيس لا يدوم، وفي هذا يقول الشاعر طرماح :
« كل مستأنس إلى الموت قد خاض إليه بالسيف كل مخاض»
واذا خلى المكان من الانسان عادت الطبيعة الى مجراها، وأصبحت البيوت موحشة. وفيه قول جرير :
«حي الهدملة من ذات المواعيس … فالحنو أصبح قفراً غير مأنوس»
الجبال الشامخة والبحور الواسعة والصحراء القاحلة كلها دائمة، وما يصنعه الانسان فيها زائل، وهذه الدلالة موجودة في الشعر الجاهلي بكثرة وافرة حتى أصبحت ظاهرة في الشعر سميت بالوقوف على الاطلال،
وفيها قول لبيد بن ربيعة :
«عَفَتِ الدِّيارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا … بمنًى تأبَّدَ غَوْلُها فَرِجَامُهَا»
فقد خربت الطبيعة الديار، وأصبحت موحشة ( متأبدة).
وهكذا ارتبط التوحش بالتأبد بالطبيعة. ولقد اتى الاسلام ليقلب هذا التصور الأنطولوجي العربي، فالأبدية لله لا للطبيعة، يقول تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً}
أي: لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية، ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف.
فمن يريد ان ينعزل البشر، سيتوجه الى الحي الذي لا يموت لا الى الطبيعة الفانية، وهكذا سينلقب التأبد الى التعبد، وتنقلب الوحشة الى أنس بالله عز وجل!
ومن خلال الانس بالله، اي توحيده وعبادته بالحق، تتحقق الإنسانية الحقة. فمن أعرض عن ذلك فهو ليس إنسانًا وانما كالأنعام بل أضل سبيلا. فالأنس بالله حاجة فطرية متجذرة في الإنسان سخر الله لإشباعها بأن جعل توحيده فطرة، وارسل الانبياء والرسل وانزل الكتب حتى يهتدي الانسان لما خلق له. { وما خلقت الانس والجن الا ليعبدون} قال السلف: ليوحدون.
– فطرة حنيفية وثورة فلسفية
ومما سبق ذكره تبين لنا، أن الانسان مفتقر في ذاته لما يؤنسه، مما ينفعه ويلتذ به من علم واكل وشرب ومنكح وملبس وإفتقاره هذا يدله على حاجته الأعظم؛ حاجته للإله، فأعلى المقامات أنسه بالله والذل له، والإقرار بالإفتقار له، وشكره على نعمه التي تؤنسنا في الحياة الدنيا وأهمها نعمة التوحيد.
فنظر كيف المآل الذي آل له هذا التفلسف العربي الإسلامي الأصيل، في صياغته مفهوم للإنسان ينتهي عند الإتساق الى الإنسان-العبد الموحد لله الذاكر له، لا الإنسان-الإله الذي نسى ربه كما في النسق الغربي.
فقلب الإنسان الذي هو مبدأ الإرادة ومنتهى الإدراك، خلق للإقبال على الحق، هذا الحق الذي يحصله بالحس عن طريق «توجهه نحو الأشياء إبتغاء العلم بها»¹⁵ ثم يُعمل النظر وتنتظم الأدلة في النفس، ويتفق إفتقاره مع علمه الحق فيأنس به. فالفطرة تقتضي الإسلام كما تقتضي الأكل والشرب وغير ذلك، فمتى توفر الداعي استجابت له.
«فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية، وذلك مسلتزم للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم، فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال، هذه الأحوال لازمة لها، وهو المطلوب. »¹⁶
فالقلب « مقبلا على الحق والعلم والذكر ومعرضا عن غير ذلك، وتلك هي الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام.
فإن الحَنَفَ هو: الميل عن الشيء بالاقبال على الآخر.
فالدين الحنيف هو الإقبال على الله وحده، والإعراض عما سواه. وهو الإخلاص الذي ترجمته كلمة الحق. والكلمة الطيبة : لا إله إلا الله.»¹⁷
والله عز وجل من رحمته، انزل في الوحي ذكر صفاته وجعل في الفطرة مقتضى الإقرار بها، ولهذا قال من قال أن «الله سبحانه وتعالى نصب أعلامًا تأنس بها النفوس، وتطمئن إليها، كالكعبة وسماها بيته، والعرش وذكر استواءه عليه، وذكر عن صفاته اليد، والسمع، والبصر، والعين، وينزل إلى السماء الدنيا، ويضحك، وكل هذا لتأنس النفوس بالعادات»¹⁸ ونقل عن ابن عقيل ان الناس يأنسون بإثبات صفات الله تعالى، وأنهم بذلك يطمعون ويخافون شيئًا قد أنسوا إلى ما يخاف مثله ويرجى، وأما نفاة الصفات فلا طمع ولا مخافة، وهذا مشاهد معلوم عند أهل التعطيل الذين شبهوا الإله بالعدم، وعند الإتساق ينكرون وجوده كما حدث في الغرب؛ فيأله الإنسان نفسه. ¹⁹
فمفهوم الإنسان المفتقر في ذاته، المحتاج لما يؤنسه في وجوده، متسق مع عقيدة التوحيد، واثبات صفات الله، ويكون متخلقًا بالفطرة بناءً على كونه حساس يحس بالضر والنفع، ويزداد تخلقًا بالوحي عند سماعه عن الوعد والوعيد، والترهيب والترغيب. كما يحتاج لمن حوله يؤنسونه في دنياه من والديه وزوجه وبنوه وغيرهم.
في حين مفهوم الانسان العاقل، متسق مع عقيدة الشرك كما سبق البيان، ومع نفي صفات الله ودفع التجريد الى منتهاه، وهو عبادة العدم، فينقلب الانسان على عقبيه، فيحسب نفسه إله، ويحدد الأخلاق من ذاته لا ينظر الى العواقب ولا الدوافع ولا الى الإمكان في الواقع، فيبالغ في تقدير ذاته وهذا منشأ الفردانية، فتنفك العلاقات بين الانسان ومن يؤنسه من ذويه، ثم الإغتراب والعدمية فيفقد أهم ما يحتاجه وهو الأنس فيعيش في شقاء ووحشة لا يعرف المعنى من وجوده . فقد نسي الله ولم يأنس به فلم يعد يجد ما يؤنسه البتة. {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ}
¹- العمل الديني وتجديد العقل، د.طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1997، ص 18
²- Lakoff G. & Johnson, M. (1999) Philosophile in the flesh. P. 400-401.
بواسطة : عبد الله بن سعيد الشهري، ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والايمان، مركز نماء للبحوث والدراسات، ص 116.
³-رسالة في العقل والروح، ابن تيمية، بعناية طارق سعود، دار الهجرة، الطبعة الثانية،ص32.
⁴- الرد على المنطقيين، ابن تيمية، ص 196.
⁵- صحيح البخاري، كتاب الايمان، الباب 13.
⁶-مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 3 ص 338.
⁷-رسالة في القلب وأنه خلق ليعلم به الحق ويستعمل فيما خلق له، تأليف شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله، حقق نصها وضبطه وخرج أحاديثها: سليم بن عيد الهلالي، دار إبن الجوزي،ص 16.
⁸-رسالة في العقل والروح، ابن تيمية، ص 54
⁹-المصدر السابق، ص11
¹⁰- المصدر السابق ، ص 16.
¹¹- ثلاث رسائل، عبد الله بن سعيد الشهري، ص 11
¹²- أساس البلاغة، أبو القاسم الزمخشري، مادة ” ا ن س “.
¹³- درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ج8،
¹⁴- مقال: هل أخطأ أمية بن أبي الصلت في قوله: «… ربُّ الأنامِ وربُّ من يتأبّد»؟ – رضا زيدان، منصة معنى الثقافية.
¹⁵- رسالة في القلب وأنه خلق ليعلم به الحق ويستعمل فيما خلق له، تأليف شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله، حقق نصها وضبطه وخرج أحاديثها: سليم بن عيد الهلالي، دار إبن الجوزي،ص 16.
¹⁶-درء تعارض العقل والنقل، شيخ الاسلام ابن تيمية، ج8، ص 451
¹⁷-رسالة في القلب وأنه خلق ليعلم به الحق ويستعمل فيما خلق له، تأليف شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله،ص 30.
¹⁸- صيد الخاطر، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (ت ٥٩٧هـ)، بعناية: حسن المساحي سويدان، دار القلم – دمشق، الطبعة: الأول،١٤٢٥هـ – ٢٠٠٤م، ص 284.
¹⁹- المصدر السابق، ص 199