اعلم – وفقك الله للحق – أن موافقةَ قومٍ في نتيجة، لا يساوي موافقتهم في المقدمات التي أدت للوصول إليها.. وأضرب على هذا مثالا ليتبين المقصود:
نحن معاشر المسلمين: نقول بأن قتل النساء والأطفال قبيح، والليبراليون يوافقوننا على ذلك. ولكن هل المقدمات التي وصلنا بها إلى هذه النتيجة واحدة؟ الجواب هو لا..
أولا: ما هو القتل عند أتباع الرسل؟
= القتل عندنا هو إزهاق روح بإرسالها إلى ربها.. بمعنى انتقال الروح من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة أيا كانت الكيفية أو الوسيلة، فمعنى القتل عندنا شديد الارتباط بالإيمان بالبعث الذي يكفر به الدهرية، ولا يعيره الليبرالي -وإن آمن به- اهتماما عند تأسيسه لفلسفته الأخلاقية. أما القتل عند الليبرالي: فهو سلب الإنسان لحق هو من أعظم حقوقه، وذلك أن البشر عندهم متساوون، وما لا ترضاه لنفسك لا يجب أن ترضاه لغيرك. وهذا كله عندنا باطل.. فالحياة نعمة من الله لا حق لنا عليه، ولا نسلم بتساوي منازل البشر بهذا الإطلاق، فإن المؤمن خير من مئة كافر!
واعلم أن القتل عند أتباع الرسل نوعان: الأول قتل بحق، وآخر بغير حق، والأول حسن والثاني قبيح. وإنما يُعلم الأول من الثاني بالشريعة لقصور العقل ونقص العبد عن بلوغ هذا العلم بحكم القتل في كل الأحوال، فلا يمكن ذلك إلا إن أحطنا بكل الأسباب المُشاهدة منها والغيبية، وهذا لا يصح أن يوصف به إلا الباري جل شأنه، ولهذا قد يحكم العقل قبل الشرع على الجهاد بما يظهر له من الأسباب بالقبح، فلما نزلت الشريعة دلتنا على حسن ذلك وتعقلنا وجه حسنه بحسب مقاصد الشريعة.
❃ ومن القتل بغير حق:
١) قتل أي مسلم لغير الثلاث التي يحل بها دمه (وسيأتي شيء من أوجه الحكمة من كل واحدة منها)، فإن النفس المسلمة الطاهرة يحبها الله، وذلك أنها تعبده وتسبح بحمده، وهذا من أعظم ما يحبه الباري، ويظهر على أيديها كمالات عند اتباع الأوامر واجتناب النواهي يحبها الباري جل شأنه مثل الصدق والعدل والجود والكرم ونحوه، فكان قتله منعا له مما يحبه الله، فاستحق بذلك قاتله الجزاء بالمثل في الدنيا والعذاب في الآخرة.
٢) قتل المعاهد والذمي، وهو قبيح لاعتبارين: الأول أنه نقض للعهد وهو ضرب من الكذب ونقص يبغضه الله. والثاني: أن الذمي الذي يدفع الجزية عن يد وهو صاغر مظنة الإسلام، فإن الحجة الرسالية تزيد في القيام عليه، والمغلوب مولوع بتقليد الغالب (من جهة نفسية)، وإسلام المرء من أعظم ما يحبه الله تقدست أسمائه، ولهذا كان أجر من تسبب في إسلام غيره من الكفار عظيما.
❃ ومن القتل بحق:
١) قتل أي مسلم حل دمه بإحدى الثلاث: النفس بالنفس وقد تقدم إحدى أوجه الحكمة -التي وفقني الله لها- بما يغني عن الإعادة، والثيب الزاني وهو من زنى بعد إحصان، والمرتد عن دينه، وقد قررنا في غير هذا الموضع أن من أقيمت عليه الحجة الرسالية وعاند متبعا لهواه، استحق الفناء في الدنيا لاعتبارين: الأول أن المقصود من الحياة في الدنيا هو عبادته سبحانه، فمن أبى بعد أن أقيمت عليه الحجة والبرهان، وسعى في الأرض فسادا بإضلال عبيد الله، استحق الفناء من الدنيا ليتعذب بما هو أهله من العذاب خالدا مخلدا في النار، كما استحق قوم نوح عليه السلام الفناء بعد أن أبوا الإيمان..
ويُراجع: باب في أن حد الردة أصله في القرآن
والمرتد من أعظم من أقيمت عليه الحجة الرسالية، فإن من وُلد في الاسلام وبين أهله، وعلم التوحيد وقرأ القرآن ثم ارتد كان صاحب هوى لا محالة.
وقد أمر سبحانه قوم موسى ممن ارتدوا وعبدوا العجل بعد أن غاب عنهم نبي الله موسى عليه السلام بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتوب عليهم، وذلك بأن أمر من لم يعبدوا العجل بقتل من عبده حتى قيل أن قُتل سبعون ألفا، قال سبحانه: ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوۤا۟ إِلَىٰ بَارِئكُمۡ فَٱقۡتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ عِندَ بَارِىِٕكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾ [البقرة ٥٤]
روى ابن أبي حاتم في تفسيره ٥٢٨ – بإسناد صحيح عن القاسِمُ بْنُ أبِي بَزَّةً أنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ومُجاهِدًا يَقُولانِ في قَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾
قالا: قامَ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ بِالخَناجِرِ فَقَتَلَ بَعْضُهم بَعْضًا لا يَحْنُو رَجُلٌ عَلى قَرِيبٍ ولا بَعِيدٍ، حَتّى ألْوى مُوسى بِثَوْبِهِ، فَطَرَحُوا ما بِأيْدِيهِمْ، فَكُشِفَ عَنْ سَبْعِينَ ألْفَ قَتِيلٍ، وإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أوْحى إلى مُوسى أنْ حَسْبِي فَقَدِ اكْتَفَيْتُ، فَذَلِكَ حِينَ ألْوى مُوسى ثَوْبَهُ.
قلت: وعلى هذا التفسير إجماع المفسرين، ولا ريب أن مثل هذا مُستشنع عند أهل هذا العصر لتأثرهم بالأصول الليبرالية، فإن لسان حالهم أن هذه “مجزرة وهمجية“، مع أنهم لو فقهوا وعقلوا لعلموا أن أمواتهم أحياء عند ربهم يُرزقون! ولهذا جاء في أثر ابن شهاب:
(فَأَوْحَى اللَّهُ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِلَى مُوسَى: مَا يُحْزِنُكَ؟ أَمَّا مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَحَيٌّ عِنْدِي يُرْزَقُونَ، وَأَمَّا مَنْ بَقِيَ فَقَدْ قَبِلْتُ تَوْبَتَهُ. فسُرّ بِذَلِكَ مُوسَى، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ).
فإذا عُلم هذا عُلم أن ليس سفك الدماء بمناط قبح عند العقلاء، وإلا لزم المعارض أن يكون نباتيا يمتنع عن قتل الحيوانات لأجل نفس العلة!
2) الكافر المحارب، والحكمة من إباحة دمه من وجوه سأذكر بعضها: الأول أنه بلغه من الإسلام ما وجب أن ينشرح له صدر سوي النفس الذي تخلو نفسه من الأهواء، إلا أنه كابر واتبع هواه وضل على شركه، بل حارب لأجله وعادى الله ورسوله. الثاني: أنه نصب العداء للمسلمين الذين هم أحب الأنفس إلى الله، والعدوان لا يرد إلا بالعدوان.
وأما الحربيون من غير المحاربين كالعسفاء وأضرابهم، فالأولى استرقاقهم، والقول في الحِكم من ذلك كالقول في الذمي.
الخلاصة: أن من درس أصول الاسلام كما شأنها أن تُدرس، لم تستشنع نفسه شيئا من التشريعات البتة، ولكننا قوم مغلوبون في هذا العصر، فتلبس كثير من المسلمين بأصول الاستدلال الأخلاقي من ملل الكفار، فحسب أن ما وصل إليه برأيه وقياسه المبني على منطق ليبرالي ممحوق، هو الحق الذي ريب فيه، وما دونه باطل لا مرية فيه والله المستعان لا رب سواه.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم