العلم التجريبي وفلسفته

نظرية المرجع والعلاقة بين اللغة والواقع في العلوم التجريبية

نظرية المرجع (Theory of Reference) تبحث في كيفية ارتباط الكلمة العلمية بالشيء الموصوف، أي العلاقة بين اللغة والواقع.

نبدأ أولًا بمشكلة دلالية في العلم تُعرف بـ semantic problem، وهي أن الكلمة الواحدة قد تستخدم في مجالات مختلفة، وتأخذ معاني مختلفة حسب السياق. فقد يكون لها استخدام في اللغة العامية، وآخر في المجال التخصصي. لذا، من المهم أن نضع الكلمة داخل إطارها الكلي (macro)، أي داخل البارادايم، ثم داخل النظرية، ثم نربطها بالنماذج المختلفة حتى نصل إلى الفرضية، التي نقارنها بالتجربة أو المشاهدة. فالسياق يلعب دورًا كبيرًا في تحديد دلالة الكلمة.

مثال جيد على هذا هو كلمة “تطور” (evolution)، فهي تُستخدم في سياقات مختلفة (نظرية محددة أو مجموعة نظريات)، ولها تأويلات متعددة (كـتأويل داروين أو ستيفن جاي جولد)، وتتنوع بحسب مستويات الواقع (macro، meso، micro).

التحليل الدلالي (semantic analysis) يرتكز على ثلاثة مجالات:

  1. العلوم الأساسية Basic Science: عندما تكون الدلالة مرتبطة بتوسيع المعرفة الإنسانية وحل المشاكل للوصول إلى الحقيقة.

  2. العلوم التطبيقية Applied Science: عندما ترتبط الدلالة بحل المشكلات الواقعية في بيئة عملية.

  3. تطبيق العلوم Application of Science: حينما يُستخدم المحتوى الدلالي في سياقات متنوعة تربط المعرفة العلمية بالواقع العملي.

بالنسبة لـ فريجه (Frege)، فقد اعتقد أن للكلمة “حاسة معيارية” (sense)، يتقاسمها جميع العلماء، وعن طريقها يمكن التواصل والوصول إلى مرجع واقعي. وهذا يُمكّن من تأسيس مرجع علمي موحد للكلمة.

هناك منهجان في اللغة: دلالي Semantic و براغماتي Pragmatic. الأول يهتم بدلالة الألفاظ ذاتها بغض النظر عن السياق، ويركز على الشروط التي تجعل العبارة صحيحة (conditions of truth). بينما الثاني يأخذ بالسياق الذي استخدمت فيه الكلمة، ويركز على شروط الاستخدام السليم في موقف معين.

الاتجاه الـدلالي كان مرتبطًا بمفهوم البرهنة verificationism عند الوضعيين، حيث تلعب قابلية التحقق دورًا في إعطاء المعنى للتنبؤات، وتشكّل رابطًا بين اللغة النظرية ولغة المشاهدة. أما الاتجاه البراغماتي، فيرى أن للكلمة استخدامات عديدة تعتمد على السياق، وليس فقط على وجود مرجع ثابت خارجي.

كون (Kuhn)، الذي تبنّى النهج البراغماتي، يرى أن معرفة معنى الكلمة تعني معرفة استخدامها في المجتمع، ولكن هذا لا يربطها بشيء واقعي بذاته. فالمعنى ينبني على علاقتها بكلمات أخرى (الدلالية الكلانية semantic holism)؛ أي أن تغيير معنى كلمة واحدة يغير معنى الجملة كلها. وهذا يقود إلى ضرورة تبني تحول لغوي language shift عند تغيير النظريات، ما يؤدي إلى فكرة incommensurability (عدم قابلية المقارنة).

لكن فريجه يرى أن بالإمكان دائمًا تأسيس معنى ومرجعية للمصطلحات العلمية، حتى عند تغيير البارادايم. ويؤكد على مبدأ المعنى الاتفاقي conventional meaning، الذي يعني أنه يمكن فهم الكلمة حتى بدون وجود مرجع خارجي. إلا أن تناسق الإحساس الداخلي (sense) لا يعني بالضرورة وجود الشيء المشار إليه في الواقع.

الفرق بين فريجه وكون يكمن في أن الأول يرى إمكانية الموضوعية في اللغة أي أن للمصطلحات معاني ثابتة ومراجع واضحة، بينما الثاني يربط المعنى بالبارادايم أي أن معنى المصطلحات يتغير عندما يتغير الإطار النظري السائد. فريجه يرى أن المرجع أهم من الحاسة لأن غياب المرجع = غياب المعنى الموضوعي، لأن الكلمة تصبح مجرد فكرة ذاتية غير قابلة للتحقق، وبالتالي غياب المحتوى المعرفي. إذا لم يكن للمصطلحات مرجع خارجي (أي لا تشير إلى شيء واقعي أو منطقي)، تصبح العبارات فارغة، مثل الخيال أو الأوهام.

ننتقل إلى النظرية السببية للمرجعية causal theory of reference، التي تبدأ من افتراض أن المرجع موضوعي ومبني على الصفات الأساسية (مثل التركيب الذري للذهب) تحدد المرجع حتى لو جهلناها. مثال: لو اكتشفنا أن “الذهب” ليس أصفر، سيظل مرجعه هو نفسه بسبب خصائصه الذرية. بالنسبة لـ بوتنام (Putnam)، المرجع هو من يحدد المعنى، وليس العكس. وهذا يعني وجود صلة سببية بين اللغة والواقع. فالأشياء في الواقع لها دور سببي في استخدام المصطلحات. كما أن المجتمع والخبراء يلعبون دورًا في تحديد المرجع المستخدم للكلمات. العلاقة بين اللفظ ومرجعه (مثل اسم “أينشتاين” أو “ذهب”) لا تُحدَّد عبر الوصف أو التعريف (كما عند فريجه)، بل عبر سلسلة سببية-تاريخية تصل المُسمّى بمرجعه.

  • فريجه: المعنى = وصفنا للشيء مثل “نجمة الصباح = الكوكب الذي يظهر قبل الشروق”. إذا أخطأ الوصف (مثل تعريف “الحوت” على أنه سمكة)، فإن المرجع خاطئ.
  • بوتنام : المعنى = التسمية الأصلية + السلسلة السببية (مثل تسمية “أينشتاين” عند مولده وانتقال الاسم عبر الأجيال).

باختصار: المصطلح يشير إلى مرجعه بسبب تاريخ سببي، وليس بسبب الصفات التي نربطها به.

وبهذا، يتجاوز بوتنام مشكلة incommensurability، لأنه يربط المعنى بالعالم الخارجي، بدلًا من الاعتماد الكلي على السياق النظري. يرفض أن يكون فهم المصطلح مساويًا لمعرفة شروط تحققه، كما عند فريجه.

  • عند فريجه، فهم أي مصطلح (مثل “الماء” أو “الكوكب”) يعادل معرفة شروط تحققه الوصفية.
    • مثال: “نجمة الصباح = الجرم السماوي الذي يظهر قبل الشروق بخصائص كذا وكذا”.
    • المعنى هنا مجموعة من الأوصاف الضرورية والكافية لتحديد المرجع.
  • المشكلة: إذا تغيرت الأوصاف (مثلاً: اكتشفنا أن “نجمة الصباح” ليست كوكبًا بل قمرًا صناعيًا)، فإن المرجع يتغير حسب فريجه.

    بوتنام يرفض المساواة بين الفهم وشروط التحقق، لأنه:

    • أولاً: الوصول إلى “الشروط التحققية” قد يتطلب معرفة علمية متخصصة (مثل التركيب الذري للماء H₂O)، بينما الشخص العادي يفهم كلمة “ماء” دون معرفة هذه الشروط.
    • ثانياً: المرجع (مثل الماء) ثابت عبر السلسلة السببية التاريخية، حتى لو جهلنا أوصافه الدقيقة.
      • مثال: لو سألنا شخصًا من العصور الوسطى عن “الماء”، سيشير إلى نفس المادة (H₂O) التي نعرفها اليوم، رغم أنه لا يعرف شيئًا عن الذرات. السلسلة السببية تربط الاسم بالمرجع الحقيقي
عنده، المرجع داخلي ويعتمد على النظرية التي تُستخدم الكلمة ضمنها. وهذا ما يسميه internal realism. الحقيقة والمرجعية تعتمدان على الإطار النظري، لكن هذا لا يعني إنكار الواقع الخارجي تمامًا (كما في المثالية الكلاسيكية).

  • الفرق عن النسبية المطلقة: بوتنام يرفض القول بأن “كل النظريات متساوية”، بل يؤكد أن بعض الأوصاف أكثر عقلانية ضمن إطارنا المفاهيمي.
  • مثال: وصف الأرض كروية (حتى لو كان وصفًا نظريًا) أفضل من وصفها مسطحة، لأنه يتسق مع شبكة مفاهيمية أوسع (رياضيات، فيزياء، إلخ).

وهو نوع من semantic idealism؛ فالعالم لا يمكن وصفه بدون نظريات علمية. العالم يُبنى دلاليًا عبر اللغة والنظريات، لكن دون إنكار وجوده المستقل.

  • الفرق عن المثالية الكلاسيكية (مثل بيركلي): بوتنام لا يقول إن العالم “من صنع العقل”، بل إن وصفنا له يعتمد على أدواتنا المفاهيمية.
  • مثال: لا يمكن وصف “الضوء” دون اختيار بين نموذج موجي (ماكسويل) أو جسيمي (أينشتاين)، رغم أن الظاهرة واحدة.

بوتنام بذلك يفصل بين المعنى اللغوي والمعرفة العلمية. يمكن أن تفهم كلمة “ذهب” دون أن تعرف عدده الذري (٧٩)، لأن الفهم يعتمد على التواصل اللغوي المجتمعي، لا على المعرفة الفردية. هذا يتناقض مع فريجه الذي يربط الفهم بالمعرفة التحليلية للمصطلح

بوتنام يقدم نموذجًا اجتماعيًا-تاريخيًا للمرجعية، بينما فريجه يقدم نموذجًا وصفيا تحليليا. الأول يعتمد على الواقع الخارجي والسببية، والثاني على التعريفات الذهنية.

في الاتجاه غير الواقعي، هناك فكرتان أساسيتان:

  1. لا تدخل شروط الحقيقة ضمن معرفة المعنى. قد نفهم المعنى دون أن نعرف الشروط الموضوعية للحقيقة

  2. تقل أهمية المرجع، ويصبح التركيز على كيفية استخدام الكلمة في اللغة.

هذا يعني أن البرهان يكون ابريقيًا، لأن البرهان هنا لا يستند إلى حقائق خارجية مطلقة، بل إلى الممارسات التواصليّة بين المتحدثين داخل سياق لغوي معين.

    • مثال: تحديد معنى كلمة “عدل” يعتمد على كيف يستخدمها المجتمع في نقاشاته، لا على حقيقة ميتافيزيقية للعدل.

لكن ربط المرجع بالممارسة اللغوية لا يضمن الموضوعية.

أما بالنسبة لـ كون، فهو يفترض أن لكل نظرية معجمها الخاص، وبالتالي الثورات العلمية هي تغيرات في المعاجم وليس في البارادايم فقط.

فهو يرى أن كل نظرية علمية (مثل فيزياء نيوتن أو نظرية آينشتاين) لها مفرداتها الخاصة وكلماتها التي تحمل معاني مختلفة عما قبل. عندما تحدث ثورة علمية، فإنها لا تغير فقط الأفكار (البارادايم)، بل تغير اللغة نفسها التي نستخدمها لوصف العالم. مثلاً، كلمة “الكتلة” في فيزياء نيوتن تعني شيئاً مختلفاً عنها في نظرية آينشتاين. لذلك، لا يمكننا مجرد ترجمة كلمات النظرية القديمة إلى الجديدة، بل يجب تعلم اللغة الجديدة كلياً. هذا ما يقصده كون بـ”عدم القابلية للمقارنة” (incommensurability) ليس أن النظريات لا يمكن مقارنتها أبداً، بل أن الفهم الحقيقي يتطلب تعلم النظام اللغوي الجديد كاملاً، وليس مجرد تبديل الكلمات. اللغات المختلفة تبني العالم بطرق مختلفة. وهكذا، تصبح المعاجم هي البارادايم، وتُحل مشكلة النسبية اللغوية. فالثورة العلمية تورث مشاكل في الترجمة، لا نسبية لغوية شاملة.

الثورات العلمية تتصف بثلاث ميزات:

  1. شمولية (Holistic): تغيير في جزء يؤدي إلى تغيير الكل.

  2. تغير في اللغة: وهذا يؤثر على العلاقة بين الكلمة والواقع.

  3. تغير في المعيار المرجعي: أي العلاقة بين المصطلحات ومجموعة الأشياء التي تشير إليها.

كون يصف نفسه بأنه “كانطي مابعد-دارويني” (post-Darwinian Kantian)، لأن معاجمه تشبه فئات كانط، لكنها تتغير بمرور الزمن.

وكما أشرنا سابقًا، كون يتبنى الدلالية الكلانية semantic holism: الكلمات لا تملك معنى بمفردها، والمعنى ينبثق من المعجم، لا من إدراك الأفراد. المرجع يُفهم من خلال مكانه في المعجم.

بالنسبة لـ دوميت Dummett، يقدم فكرة “recognition statement” مثل “هذا ثقب أسود”، التي تتطلب إحساسًا داخلي (sense) للتعرف على المرجع، ويشمل ذلك معيار الهوية ومعيار الاستخدام. الأول يساعد في التأكد من أن الشيء هو نفسه في سياقات مختلفة، والثاني يحدد متى يصح استخدام المصطلح.

الجمل العلمية مثل “الماء هو ماء” و”الماء هو H2O” كلاهما صحيحتان، لكن الثانية تقدم معلومات إضافية. لذلك، للغة العلمية أولوية على واقعية الظواهر.

الهدف من اللغة العلمية هو الإشارة إلى المرجع، ليس عبر الإحساس الداخلي فقط، بل من خلال بناء المعنى عبر أدوات علمية دقيقة. فالمصطلح قد يملك معنى حتى لو لم يكن يشير إلى شيء موجود، كما في حالة الأساطير.

في العلم التجريبي مثل الفيزياء، العلاقة بين الدلالة والمرجع لها جانبان:

  1. يجب أن يتطابق معنى الجملة مع الحقيقة الواقعية (مثلاً: “الأجسام تسقط” تكون صحيحة فقط إذا حدث هذا فعلاً).
  2. يجب أن يكون ما تصفه الجملة ممكن الوجود (مثلاً: “الذرات موجودة” يفترض أن الذرات لها وجود حقيقي).

أما في العلم التطبيقي مثل الهندسة،فالسياق العملي هو الأهم:

  • المعنى هنا يُستعمل كدليل للإجراءات (مثل تعليمات بناء جسر).
  • الموضوعية تعني أن الجميع يفهمون المصطلحات بنفس الطريقة عند التطبيق.

عبد القادر سبسبي

طالب علم، مهتم بالقضايا المعاصرة في فلسفة العلم و الإبستمولوجيا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى