قضايا

موقف ابن تيمية من الفلسفة – حتى لا يشيع الخطل (4)

كلام على الهامش، ثم نعود لتحليل نصوص إبن تيمية.

لقد أكدتُ أن الخلاف مع من ينسب ابن تيمية للتفلسف ويقول إن الفلسفة هي مطلق النظر العقلي، هو خلاف لفظي.

لكننا ننزه شيخ الإسلام بل وكل ائمة السنة والسلف وأتباعهم، على وصفهم بالتفلسف أو أنهم تفلسفوا. حتى نسد الطريق على أهل الباطل الذين يتخذون هذا الوصف مطية لنزع فضيلة أتباع السلف، ويصبح كلامهم مجرد نظريات واجتهاد قابل للأخذ والرد والتجاوز كسائر كلام الفلاسفة، وهذا ديدن أمثال سامي نشار وعبد الحكيم اجهر وأبو يعرب المرزوقي وغيرهم. وسنستمر في البيان لإخواننا أن التفلسف ليس هو مطلق النظر العقلي، سدًا للذريعة وحسمًا للمادة.
ولقد فرقوا بين الكلام والفلسفة، بأن من خواص الفلسفة : الإتساق الذي يفتقده أهل الكلام . فقيل:« أن يكون [الفكر] متسلسلًا بطريقة عقلية متسقًا لا مثل الأحياء العشوائية، هذا هو الفرق بين الفلسفة وعلم الكلام» وهذا القول للاستاذ يوسف سمرين.
ثم نوقض كلامه هذا -الذي نقلتموه إقرارًا- لما آتيناكم بمثال مضاد بأنه يوجد فلاسفة غير نسقيين، فقيل: « لم اقل إن من خواص الفلسفة الإتساق.»
فبماذا تختص الفلسفة عن علم الكلام إذن ؟!
قلت : « التفلسف هو محض التعقل، فما يفعله المتكلمون إنما هو فلسفة» ! فناقضتَ كلام الاستاذ يوسف سمرين الذي نقلته إقرارا!

فإذا أخرجت خاصية الاتساق، كخاصية مميزة للتفلسف عن غيره من طرق النظر كالكلام. وهذا اوافقك عليه بلا ريب.
انحصر الخلاف في الادعاء بأن الفلسفة هي مطلق النظر العقلي، وقولنا أن ليس كل نظر عقلي يسمى فلسفة، وانما التفلسف منهج مثالي خاص في التعقل، مِيزته إطلاق النظر بلا شرط ولا قيد واستخدام القياس الميتافيزيقي الذي يتعدى به على الغيب، كما وضحته في ما سبق، وكما وضحه الدكتور أبي الفداء في غير واحد من مقاطعه وكتبه. وأن هذا المعنى نفسه الذي يذمه السلف ويتباعهم على ذمه إبن تيمية.

وأقول بمزيد تفصيل: ليس التفلسف هو مطلق النظر العقلي من وجوه :

١- أنه لا يسمى النظر في الفقه أو الحديث وغيره من علوم الشرع، ولا في كثير من الرياضيات وعامة العلوم الحقة وغير ذلك من أنواع النظر العقلي في مختلف العلوم، لا يسمى هذا النظر تفلسفًا عند أحد.

٢- أن الفلاسفة أنفسهم لا يسمون كل من انتسب للفلسفة فيلسوفًا، حتى لو كان من أحذق النظار في العقليات، كما فعله جيل دولوز وغيره، والسبب في نفي التفلسف عنهم أنهم لم يلتزموا إبتداءً النظر بدون شرط ولا قيد، وانما كانوا اتباع ومقلدين لأرسطو أو كانط أو غيره. وهذا ما لا يرضاه المتفلسف لنفسه.

٣- أنه بجعل الفلسفة هي مطلق النظر العقلي، تصبح كتب تاريخ الفلسفة، هي كتب ” تاريخ النظر العقلي”، وهذا لا يقوله أحد. بل يقولون أن الفلسفة طريقة مخصوصة في النظر ظهرت في اليونان، وقد يخالفهم في ذلك من ينسب ظهورها للشرق وللحضارة الفرعونية أو البابلية أو الحضارت الهندية والصينية، وأن اليونان استفادوها منهم. وحتى مع هذا الخلاف فلا أحد يعتبرها مطلق النظر العقلي، والا كان لا معنى للبحث في ” متى واين ظهرت الفلسفة” !

٤- والفلاسفة هم آحاد الناس في التاريخ، فلا يمكن أن يكون مطلق النظر العقلي حكرًا عليهم، ويوجد غيرهم من النظار كالاطباء والسياسيين والفقهاء وغيرهم، بل لا يخلو أحد من الادميين بأن ينظر بعقله في مسألة من المسائل. فهل الجميع فلاسفة إذن ؟

٥- والفلسفة، لفظ مركب ظهر في اليونان لتمييز طريقة مخصصة في النظر لبعض الأشخاص عن باقي الطرق. وأول من وصف بها كنعت -فيما نقل لنا في تاريخ هيرودت- هو صولون أحد الحكماء السبعة. وقيل أن أول من استعمل هذا التركيب هو هيراقليط في شذراته فقال « أنير فيلوسوفوس» اي «الإنسان الفيلسوف». [ هيدغر، ما الفلسفة ؟ ]
مع اختلاف كبير في تحديد معنى ” الصوفيا” في لغة اليونان هل هي مطلق الحكمة؟ أم الحكمة في الفن والصناعة ؟ أم حكمة قول الشعر خاصة ؟ أم الحكمة العملية ” فن العيش”؟
والكلام في هذا مما يطول بسطه، لكن المقصود : أن الكلمة تم اختراعها لتخصيص طريقة معينة في النظر العقلي ظهرت في اليونان، والا لو كانت هي مجرد مطلق النظر العقلي أو التعقل= لما تكلفوا توليد كلمة وتركيبها مما لم يكن دارجًا في استخدامهم.

فهذه خمسة وجوه مجملة في الرد، ويوجد غيرها، لكن المقصود هو التنبيه لا الاستيعاب.

ثم نعود إلى تحليل نصوص إبن تيمية.

محسن بوعكاز

طالب فلسفة وعلم شرعي، مهتم بالعقيدة والقضايا الفلسفية والفكرية المعاصرة.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button