بيان موقف أهل السنة في مسألة “تسلسل الخلق بالاستحالة”
والتفريق بين مذهب شيخ الإسلام وكلام الماديين من الفلاسفة الأقزام!
الحمد لله وحده، أما بعد، فقد أرسل لي أحد الإخوة مقالًا كتبه حول موضوع يكثر اللغط فيه ألا وهو “التسلسل” و”حوادث لا أول لها”، وطلب مني أن أعلق عليه بما يرجى منه عموم النفع في الباب لمن تعرضوا له، وسأنقله هنا حتى تعم الفائدة إن شاء الله، والله الهادي إلى سواء السبيل.
كتب الأخ في مقاله: (وقد حذفت منه بعض التطويلات في صياغة المقالات الأساسية، وتخللته بالتعليق، فكل تعليق لي فهو مسبوق بقولي “قلت”، فلينتبه لهذا.)قال الكاتب: ” في إبطال مذهب السلفية الفلسفية التسلسليين أذناب الطبيعيين: الجزء الأول
فقد نبتت ثلة نابتة تقول أن الله سبحانه “لا يقدر” على خلق شيء بعد عدمه. **”قلت: لعلك تقصد لا يقدر على خلق شيء من عدم محض. فالجميع متفقون على أن المخلوق المعين إنما يوجد بعد عدم نفسه.قال الكاتب وفقه الله “وأن هناك سلسلة قديمة معينة يستحيل الله فيها شيء من شيء متسلسلين إلى لا أول، وأن جنس المخلوقات مترتب على خلق جنس المخلوقات”
قلت: هنا خلل في العبارة، بارك الله فيك. فلفظة الجنس تطلق ويراد بها مبدأ وجود الشيء. فلا نقول جنس المخلوقات مترتب على خلق جنس المخلوقات! نقول المخلوق المعين حادث، لكن لا نقول جنس المخلوقات حادث، لأن الله لم يزل يخلق المخلوقات من الأزل بلا أول، لم يبدأ جنس المخلوقات في الماضي حتى يقال “خلق جنس المخلوقات”. فالصواب في المعنى الذي تريده هنا، بارك الله فيك، أن يقال: وأنه ما من مخلوق إلا وهو مخلوق من شيء قبله. |
قال الكاتب: “أي أن الله لا يقدر أن يخلق مخلوق إلا من مخلوق قبله!، وأن الله فعلًا من الازل إلى الأبد لم يخلق ولن يخلق أي شيء من عدم!
ويتهمون شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنه قال بهذا ويحملون كلامه في بعض المواضع المجملة على هذا على الرغم من أنهم لو حملوا كلامه كما حمله تلامذته ومنعوا التسلسل كما منعه هو في تفصيله لخرجوا من هذه القاع التي غرقوا فيها نسأل الله السلامة.
والآن سأنقل بعض النقولات وسأبين وجه الاحتجاج بها عليهم:
في كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (4/ 386)
يقول المؤلف: وثانيهما: الأمر، وهو أعمُّهما، ولذلك أخره؛ لأن الخلق نوع من جنس الأمر يدخل تحته، بدليل قوله تعالى: {وإليه يَرْجِعُ الأمرُ كُلُّهُ} [هود: 123]، فدخل فيه الخلق والأمر، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {إنما أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقُولَ لَهُ كُنْ فيكُوْنُ} [يس: 82]، فلو كانت ” كُنْ ” مخلوقةً من جملة عالم الخلق، ما كانت (1) سبباً لخلق المخلوقات، ولكانت محتاجةً إلى أن يُقال لها (2) ذلك، ويؤدي (3) إلى التسلسل. “
قلت: التسلسل الممنوع هنا أخي الحبيب، هو تسلسل العلل الضرورية، وبه يحتج عليهم رحمه الله في زعمهم أن كلمة كن مخلوقة. أما اعتقاد أنه لم يزل يخلق بالاستحالة في سلسلة لا أول لها، فليس يقتضي تسلسل العلل |
قال الكاتب: ” في كتاب قدم العالم وتسلسل الحوادث (ص: 65)
“فلو كانت ” كن ” مخلوقة، لزم أن لا يخلق شيئاً أصلاً، فإنه لا يخلق شيئاً حتى يقول ” كن “، ولا يقول ” كن ” حتى يخلقها؛ فلا يخلق شيئاً.
وهذا التسلسل ممتنع لذاته -كما مر -” فإنه إذا لم يخلق شيئاً أصلاً حتى يخلق قبل ذلك شيئاً آخر، كان هذا ممتنعاً لذاته، فكان وجود مخلوق قبل أن يوجد مخلوق أصلاً فيه جمع بين النقيضين بخلاف ما إذا قيل: إنه لا يخلق مخلوقاً معيناً حتى يخلق مخلوقاً معيناً؛ فإن هذا ليس بممتنع؛ كما أنه لا يخلق المولود من غيره حتى يخلق الوالد ) . فهذا هو التسلسل في العلل الفاعلة وهو ممتنع كما تقدم.”
“في كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي
وقال البويطي: إنما خلق الله كل شيء بـ (كن)، فإن كانت (كن) مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقاً.
يعني: أليست هي قول كذلك؟ إذا أراد الله عز وجل شيئاً يقول له: (كن)، معنى ذلك على منهج المعتزلة والخوارج وبعض الشيعة: أن كلمة (كن) من قول الله عز وجل، فإذا كان قول الله عز وجل مخلوقاً فكذلك تكون كلمة (كن) مخلوقة، فقوله: (كن) إذا كان مخلوقاً هل يتصور أن يكون قوله: (كن) قادراً بذاته على أن يخلق غيره وهو (كن) الثانية؟ فإذا أراد الله أن يخلق شيئاً يقول له: (كن) فيكون، فقوله الأول: (كن) إذا كان مخلوقاً وأوجد غيره من الأشياء، فهذه الأشياء مخلوقة؛ لأنها حادثة، فهل يتصور أن كلمة (كن) المخلوقة تخلق غيرها؟”
في كتاب الأربعون العقدية (1/ 385)
3 –” قال تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)) (يس: 82)
وقد احتج سفيان بن عيينة وغيره من السلف على أن كلام الله -تعالى- غير مخلوق بأن الله خلق الأشياء بـ ” كن “، فلو كانت ” كن ” مخلوقة للزم أن يكون خلق مخلوقاً بمخلوق، فيلزم التسلسل الباطل، وذلك أنه إذا لم يخلق إلا بـ ” كن ” فلو كانت ” كن ” مخلوقة للزم أن لا يخلق شيئاً، وهو الدور الممتنع”
قلت (أبو الفداء): وسبب ذلك الامتناع هو أن كلمة التكوين هي العلة الفاعلة أو الضرورية، فإن قدرنا التسلسل بطلت الفاعلية! أما الخلق بالاستحالة فلا يلزم أن يكون السابق فيه علة فاعلة في اللاحق، أو على اصطلاح المعاصرين: سببا ضروريا، وإن كان اللاحق مخلوقا منه، بل كل واحد من أفراد السلسلة – إن قدرناها – يكون معللا بكلمة “كن” تخصه، فانتبه! |
قال الكاتب: ” في كتاب خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 45)
قال ابن عيينة: ” قد بين الله الخلق من الأمر بقوله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] ، فالخلق بأمره كقوله: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4] ، وكقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ، وكقوله: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25] ، ولم يقل بخلقه “
في كتاب خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 113)
” وأما الفعل من المفعول، فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث لقوله: {خلق السموات والأرض} فالسموات والأرض مفعوله، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول، فتخليق السموات فعله لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله، ففعله من ربوبيته، حيث يقول: {كن فيكون} [البقرة: 117] ، ولكن من صفته وهو الموصوف به كذلك قال: رب السموات ورب الأشياء ” وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رب كل شيء ومليكه.
في كتاب مجموع الفتاوى (16/ 382)
بل نفس الإرادة مع القدرة تقتضي وجود الخلق كما تقتضي وجود الكلام. ولا يفتقر الخلق إلى خلق آخر بل يفتقر إلى ما به يحصل وهو الإرادة المتقدمة. وإذا خلق شيئا أراد خلق شيء آخر وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن”
قلت: تأمل قوله لا يفتقر، وهو تعليل الفاعلية، ولكن اللاحق في الخلق بالاستحالة لا يكون مفتقرا للسابق حتى يوجد. |
قال الكاتب: ” في كتاب فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (17/ 323)
سفيان بن عيينة وغيره من السلف على أنه غير مخلوق بأن الله خلق الأشياء بـ ” كن “. فلو كانت ” كن ” مخلوقة لزم أن يكون خلق مخلوقا بمخلوق فيلزم التسلسل الباطل. وذلك أنه إذا لم يخلق إلا بـ ” كن ” فلو كانت ” كن ” مخلوقة لزم أن لا يخلق شيئا. وهو الدور الممتنع. فإنه لا يخلق شيئا حتى يقول ” كن ” ولا يقول ” كن ” حتى يخلقها فلا يخلق شيئا. وهذا تسلسل في أصل التأثير والفعل مثل أن يقال: لا يفعل حتى يفعل فيلزم أن لا يفعل؛ ولا يخلق حتى يخلق فيلزم أن لا يخلق. وأما إذا قيل: قال ” كن ” وقبل ” كن ” ” كن ” وقبل ” كن ” ” كن ” فهذا ليس بممتنع. فإن هذا تسلسل في آحاد التأثير لا في جنسه. كما أنه في المستقبل يقول ” كن ” بعد ” كن ” ويخلق شيئا بعد شيء إلى غير نهاية. فالمخلوقات التامة يخلقها بخلقه وخلقه فعله القائم به وذلك إنما يكون بقدرته ومشيئته.
في كتاب مجموع الفتاوى (16/ 387)
بأن الله خلق الأشياء بـ ” كن “. فلو كانت ” كن ” مخلوقة لزم أن يكون خلق مخلوقا بمخلوق فيلزم التسلسل الباطل. وذلك أنه إذا لم يخلق إلا بـ ” كن ” فلو كانت ” كن ” مخلوقة لزم أن لا يخلق شيئا. وهو الدور الممتنع. فإنه لا يخلق شيئا حتى يقول ” كن ” ولا يقول ” كن ” حتى يخلقها فلا يخلق شيئا. وهذا تسلسل في أصل التأثير والفعل مثل أن يقال: لا يفعل حتى يفعل فيلزم أن لا يفعل؛ ولا يخلق حتى يخلق فيلزم أن لا يخلق. وأما إذا قيل: قال ” كن ” وقبل ” كن ” ” كن ” وقبل ” كن ” ” كن ” فهذا ليس بممتنع. فإن هذا تسلسل في آحاد التأثير لا في جنسه. كما أنه في المستقبل يقول ” كن ” بعد ” كن ” ويخلق شيئا بعد شيء إلى غير نهاية. فالمخلوقات التامة يخلقها بخلقه وخلقه فعله القائم به وذلك إنما يكون بقدرته ومشيئته.
في كتاب مجموع الفتاوى (16/ 384)
وكتاب درء تعارض العقل والنقل ط-أخرى (9/ 240)
” وهذا القول مما اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلانه فإذا ليس معهم حجة عقلية تناقض نصوص الكتاب والسنة بل ولا مذهب السلف والأئمة وهو المطلوب
وبما ذكرناه من الفرق بين التسلسل في أصل التأثير وتمامه وبين التسلسل في الآثار يظهر صحة الدليل الذي احتج به غير واحد من أئمة السنة على أن كلام الله غير مخلوق مثل سفيان بن عيينة
وبيان ذلك أنه إذا دل على أن الله لم يخلق شيئا إلا بكن فلو كانت كن مخلوقة لزم أن يخلق بكن أخرى وتلك الثانية بثالثة وذلك هو التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء فإنه تسلسل في أصل التأثير فإنه لا يخلق شيئا إلا بكن فإذا لم يخلق كن لم يخلق شيئا ولو خلق كن لكان قد خلق بعض المخلوقات بغير كن فيلزم الدور الممتنع وهو المستلزم للجمع بين النقيضين وهو أن تكون موجودة معدومة”
قلت (أبو الفداء): فلو قدرنا أنه لم يزل يخلق الشيء بالاستحالة من شيء قبله، لم يلزم أن يقال: لا يخلق (ب) حتى يخلق (أ) قبلها، لأن (أ) ليست مؤثرة في (ب) أصلا! ليست صورة ذلك على تسلسل الفاعلين، أو تسلسل أصل التأثير، كما في قولنا لا أفعل كذا حتى أفعل كذا، فإن هذا يجعل من تمام الأول شرطا لوقوع الثاني، وهو ما يمتنع فيه التسلسل. |
قال الكاتب ” الصفدية (2/ 68)
ولا قال أحد منهم: إن الله يتجدد له كونه متكلما بعد أن لم يكن ولم ينكر أحد منهم دوام فعل الله ولا أنه لم يزل متكلما إذا شاء بل قالوا إن الله يتكلم بصوت وأنه ينادي بصوت كما دلت عليه النصوص ولكن لم يقولوا إنه يتكلم بدون قدرته ومشيئته بل نطق بهذا غير واحد منهم كالإمام أحمد وغيره وسائرهم يقرون بذلك.
وقد احتج كثير منهم كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل ونعيم بن حماد والبويطي صاحب الشافعي وغيرهم على أن القرآن غير مخلوق بقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة يس 82) فلو كان كن مخلوقة لزم أن لا يوجد شيء من المخلوقات لأن كن تكون مخلوقة بكن أخرى وهلم جرا فلا يوجد شيء.
وقد يظن بعض من لم يفهم غور كلامهم وحقائق الأمور أن هذا منهم استدلال بإبطال التسلسل مطلقا وأن ذلك يناقض دوام كونه لم يزل متكلما إذا شاء وأن هذا تناقض منهم وليس الأمر كذلك بل التسلسل نوعان تسلسل في المؤثرات وهذا باطل بالاتفاق وتسلسل في الآثار المفعولات فهذا فيه نزاع فكثير من النظار يجيزه وكثير منهم لا يجيزه وكلام الأئمة مبني على قول من أجازه وفرق بين النوعين.
وذلك أن التسلسل في المؤثرات يقتضي أن لا يوجد شيء كما تقدم فإنه إذا لم يكن يوجد هذا حتى يوجد شيء آخر ولا يوجد الشيء الآخر حتى يوجد شيء آخر وهلم جرا فإنه يقتضي تقدير أشياء كلها حادثة بعد العدم مفتقرة إلى من يوجدها وليس فيها من يوجد شيئا بنفسه ولا موجود بنفسه.”
الصفدية (2/ 71)
“وقال: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة البقرة 117) .
فهذا يقتضي أنه إذا أراد شيئا فإنما أمره أن يقول له كن فيكون وقوله: {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} عام في ما يريده وهو لم يخلق شيئا إلا وقد أراده فاقتضى هذا انه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن فلو كانت كن مخلوقة لكانت مخلوقة بكن أخرى وكذلك الثانية مخلوقة بكن أخرى وهلم جرا فيلزم ألا يخلق شيئا لأنه لا يصير خالقا لشيء حتى يخلق كن أخرى ولا يخلق كن حتى يخلق كن فلزم التسلسل في كونه خالقا وهو تسلسل في أصل التأثير وفي أصل كون المؤثر مؤثرا وهو تسلسل في أصل الخلق كالتسلسل في ذات الخالق.
فإذا قدر ذلك لزم أن لا يصير خالقا بحال كما إذا قيل لا يصير قادرا حتى يقدر أن يصير قادرا ولا يقدر أن يصير قادرا حتى يقدر أن يقدر أن يصير قادرا أو قيل لا يخلق شيئا حتى يجعل نفسه خالقا ولا يجعل نفسه خالقا حتى يخلق شيئا فإن هذا ممتنع.
وهذا بخلاف ما إذا قيل لا يخلق هذا حتى يخلق هذا ففرق بين أن يقال لا يخلق شيئا بحال حتى يخلق هذا أو لا يخلق شيئا بحال حتى يخلق ما به يصير خالقا وبين أن يقال لا يخلق هذا حتى يخلق هذا فالأول ممتنع بالاتفاق وأما الثاني ففيه نزاع بل يجب أن يكون خالقا بنفسه لا يتوقف كونه خالقا على كونه خالقا وإن توقف كونه خالقا لهذا على كونه خالقا لهذا فلما دل القرآن على أن قوله كن مما يخلق بها جميع المراد كانت من تمام الخلق فلم يجز أن تكون مخلوقة”
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 88)
ثم بين ذلك بيانا آخر يتضمن مع إقامة الحجة دفع شبه كل ملحد وجاحد، وهو أنه سبحانه ليس في فعله بمنزلة غيره يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلة ومشارك ومعين، بل يكفي في خلق ما يريد خلقه {كن فيكون} [البقرة: 117] فأخبر أن نفوذ إرادته ومشيئته، وسرعة تكوينه وانقياد الكون له، ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وقوله: {وإليه ترجعون} [البقرة: 245] .
ومن الكتاب والسنة أدلة مباشرة وصريحة باستقلال صفة الله في الخلق وعدم حصرها بالتحويل إنما اطلاق القدرة على الخلق استقلالا بصفات الذات بلا أي شيء منفصل:
وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. {إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة}
“اللهمَّ بعِلْمِكَ الغيبَ وقُدْرَتِكَ عَلَى الخلَقِ ، أحْيِني ما علِمْتَ الحياةَ خيرًا لِي ، وتَوَفَّنِي إذا عَلِمْتَ الوفَاةَ خيرًا لي”
قولُ الله تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)
وقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] فيه اثبات انه غني عن العالمين كلهم فكيف بأخص خصائصه وهي صفة الخلق!.
ووجه الاحتجاج عليهم بالآثار السابقة، أنهم رتبوا جنس أفعال الله على جنس مفعولاته، فقالوا أن جنس الأفعال “التي هي أفعال الخلق” تقتضي وجود جنس المفعولات قبلها، وهي المخلوقات التي سيفعل فعل الخلق بالاستحالة منها، فصار الله لا يقدر ان يخلق المخلوق المعين إلا بأن يكسبه الوجود من مخلوق اخر قبله يحوله منه تحويلًا إلى لا أول”
قلت (أبو الفداء): أحسنت. ولهذا نقول إننا لا نقبل القول بوجوب تسلسل الخلق بالاستحالة، وإنما نجيزه لا غير. |
“”فكل مخلوق فهو متحول من مخلوق سابق اليه، وهذا يقتضي قدم عين سلسلة المخلوقات المتحولة، وهذا ليس قدم نوع السلسلة انما قدم السلسلة المعينة نفسها، وهذه السلسلة لا يكتسب فيها الموجود وجوده من فعل الله! إنما من “فعل الله + المخلوق السابق) وبهذا يكون كل مخلوق له علتين، علة فعل الله الذي حدث في ذاته، ومفعول الله الذي حدث من غيره أيضًا، وكل فرد من أفراد هذه السلسلة لا يحمل في ذاته ليس علة بادئة بنفسها انما فقط ناقلة للوجود من المخلوق السابق لها، كمثل الجندي والرصاصة”
قلت: هنا وقع اللبس، بارك الله فيك، فالطين الذي خلق منه آدم، ليس علة فاعلة في خلقه على المعنى الذي يمتنع تسلسله، وإنما هو عين من نوع حولها ربنا بكلمة التكوين إلى عين أخرى من نوع آخر بالكلية، فلو قدرنا عدم الطين، لجاز أن يخلق آدم من غيره أو من لا شيء، ولم يمتنع ذلك، خلافا لما لو قلنا كما في المثال الذي ضربته إن الجندي لا يطلق الرصاصة حتى يعطيها إياه غيره، وغيره لا يحصل عليها حتى يأخذها من غيره، فإن فعل إطلاق الرصاصة يكون إذن مشروطا وقوعه بانتهاء ما لا ينتهي، وإذن فلا يقع أبدا! أما المخلوق بالاستحالة، فمع أنه وجد من شيء كان قبله، إلا أن وجود الأول لا يكون شرطا عقليا لوجود الثاني كما هو الشأن هنا. ولا يلزم اشتراك الثاني والأول، أي في خلق الله تعالى بالاستحالة وبكلمة التكوين، في مادة معينة تكون فيهما، دع عنك أن يثبت القدم لتلك المادة كما هو قول الدهرية. والاستحالة تغيير وتبديل وإعادة تكوين، مما يشاء إلى ما يشاء، كما يشاء سبحانه، كما بينه شيخ الإسلام، وليست تعديلا أو تجميعا لعناصر منتشرة كما هي طريقتنا نحن في الخلق من مادة قائمة سلفا. |
يكمل الكاتب قائلًا:
” فإنني لو طلبت من جندي ان يطلق رصاصة وقال لا اطلقها الا ان يعطيني إياها جندي اخر، والجندي الاخر ليس معه رصاصة من نفسه انما ياخذها من جندي اخر، الى لا اول، لزم ان لا توجد الرصاصة، اذ لا يوجد جندي أول يستطيع ان يدخل يده في جيبه ويخرج الرصاصة ويعطيها فيكون هو علة بدأ تناقل هذه الرصاصة بين الجنود، ونقول ذلك في الوجود هنا أيضا، فإن الوجود هذا كل فرد من السلسلة يكتسبه من فرد سابق وفقط هو يتحول من صورة إلى أخرى بافناء الأول بتحويله الى الاخر، ولا يوجد مخلوق اول يأخذ وجوده فورا من الله بلا واسطة سابقة عليه يعطيه الله منها هذه الرصاصة “الوجود” فالوجود هذا متناقل داخل السلسلة بلا علة بادئة، فكل العلل في السلسلة لا تفي في إعطاء الوجود بنفسها، بل كلها تكتسبه من سابق لها”
قلت: هذا مجمل. إن كان المقصود من قولك “يكتسبه من سابق”، أي أنه يكون علة فاعلة فيه، فلا يتصور عقلا وجوده إلا من أثرها، فهذا ما يمتنع تسلسله، وأما إن كان المقصود أنها توجد بالتحويل عنه أو الاستحالة منه كما خلق آدم من طين، فلا يقول أحد من أهل القبلة إن آدم لا يتصور وجوده إلا بوجود الطين قبله، كما أن المخلوق المعين لا يتصور وجوده دون وقوع كلمة التكوين. معنى العلية في هذه ليس هو عينه في تلك! |
ثم يكمل الكاتب قائلًا: **” فمن أين جاء هذا الوجود؟ إن قلتم جاء من خلق الله له، قلنا لكم أين خلقه الله وأنتم تقولون لا يقدر ان يخلقه الا بان يكون قد اخذه من موجود اخر واعطاه لموجود جديد بالتحويل ، كما يأخذ مثلا القائد سلاح من جندي ليسلمه لجندي اخر، فمتى خلق هذا السلاح أصلا ان لم يكن هنا اول جندي امتلك هذا السلاح وبدأ التمرير من عنده؟! “
قلت: قولهم لا يقدر إلا بأن يحول، هذا ما ننكره عليهم، بارك الله فيك، لأنه يوجب التسلسل ويقتضي المادية الدهرية كما تفضلت، وليس مطلق تسلسل وقوع الخلق بالتحويل. فالمسألة تحتاج إلى تحرير أدق من هذا، وفقك الله وكتب أجرك. |
قال الأخ وفقه الله:” السلف منعوا أن يكون فعل الكلام بكن الذي يترتب عليه فعل الخلق مخلوقًا ، لان فعل الخلق لا يترتب على مخلوق للزوم الدور ، وانتم استبدلتم “كن المخلوقة”، بمخلوق اخر غيرها، وصورة المسألة نفسها ويكفينا ردود السلف عليكم!.”
قلت: أما الترتب على معنى تسلسل الفاعلية والتأثير الذي يصير به المخلوق ناشئا عن فعل مخلوق مثله لا إلى أول، فهذا هو الممنوع، نعم. |
قال الكاتب: ” نحن نقول إن جعل جنس الأفعال مترتب على جنس الأفعال ممتنع، (قلت: استعمالك للمصطلح “جنس” يحتاج إلى ضبط وتدقيق، بارك الله فيك)
فكيف إذا جعلتم جنس الأفعال مترتب على جنس المفعولات! وهو كجعل جنس الأسباب مترتب على جنس النتائج!، فلا يكون السبب سببًا إلا اذا ترافق مع نتيجة لسبب سابق وهكذا إلى لا أول!، ولا يكون الله خالقًا عندكم إلا بتحويل مخلوق خلقه سابقا الى مخلوق جديد، فكيف خلق السابق؟ كذلك باستخدام مخلوق أول، وهكذا الى لا بداية، فكل فعل خلق يفتقر الى مفعول مخلوق، وهذا دور وتسلسل وتناقض وقل به ما شئت، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا”
قلت: نعم هذا المعنى باطل قطعا. ألا يكون خالقا إلا بالتحويل من مخلوق سابق، هذا من كلام الفلاسفة الدهرية! لهذا قلت لك فيما مر إن إيجاب تسلسل الخلق بالتحويل باطل وزندقة، خلافا لمجرد التجويز. فالذي يوجب، يعتقد أن المخلوق اللاحق لا يجوز عقلا أن يحدث إلا من مخلوق متقدم عليه، هذا يجعل لله شريكا في الأولية والقدم والخالقية سبحانه وتعالى علوا كبيرا. خلافا لما لو قلنا يجوز أن يحدث اللاحق من غير السابق عليه (الذي خلق بالتحويل منه)، بل من غير شيء يخلق منه أصلا، فإذن يجوز تسلسل الاستحالة على هذا التقدير ولا يمتنع، ولا يقتضي اعتقاد الدهرية الماديين. |
قال الكاتب:” بل الله يخلق بكن، إذا شاء حوّل بها شيء الى شيء، وان شاء خلق بها وحدها شيء جديد بلا تحويله من شيء مخلوق سابق عليه، ونجزم ضرورة ان كل سلسلة بعينها من المخلوقات كان بها مخلوق اول تبدأ به عين هذه السلسلة ولو كان نوع السلاسل قديم والجهة منفكة بين الأمرين وهذا معلوم عندنا وعندكم، والله المستعان وعليه التكلان.”
قلت: هذا مجمل يجب تفصيله. فإن كان المقصود كل سلسلة من الحوادث التي يخلق كل واحد منها بالتحويل من سابقه، فلا يجب أن يكون لها أول، بل يجوز! وإلا فبأي شيء نرد على الأشاعرة في إيجابهم حادثا أول؟ نحن نقول إن الحوادث لا أول لها في الماضي، فسواء كان كل فرد من أفراد تلك السلسلة مخلوقا بعد إعدام سابقه وإعدام جميع الحوادث، أو كان مخلوقا بالتحويل من سابقه، فلا يلزم تسلسل العلل الفاعلة في أي من الصورتين! وأما الأشاعرة فيجعلون كلتا الصورتين من تسلسل العلل الفاعلة، فيمنعونهما جميعا، ويلزموننا بقدم المادة وهو لا يلزمنا من هذه كما لا يلزمنا من تلك ولا فرق! |
هنا انتهى كلام الأخ وفقه الله.
وخلاصة التعليق، كما لخصتها له فيما دار بيني وبينه على الواتس:
فأقول وبالله التوفيق: إن القول بأنه لم يزل ربنا تبارك وتعالى يخلق بالاستحالة في سلسلة لا أول لها، ليس يقتضي بمجرده تسلسل العلل، التي هي بمعنى: ما لا يوجد المعلول إلا به Necessary Cause، لأننا إن قدرنا أن كان الأمر كذلك (أي لم يزل يخلق الشيء من الشيء لا إلى أول)، لم يلزم أن يكون وجود المخلوق السابق شرطا لوجود اللاحق، وإن كان اللاحق مخلوقا بالتحويل “من مادته”، إلا عند من يزعم كما ذكرت أنه لا يجوز عقلا للشيء أن يخلق من غير مادة متقدمة عليه البتة، فهذا ما يكون تسلسلا للعلل الضرورية، لأن وجود المادة المتقدمة على المخلوق إذن يكون واجبا أو ضروريا لتعليل وجود المخلوق، فمن أي شيء خلقت تلك المادة المخلوقة إذن؟ من مادة متقدمة عليها وجوبا، وهذا تسلسل العلل الممنوع! فلا يجوز البتة أن يقال إن أسبقية المادة لوجود المخلوق واجبة عقلا، ومن قال هذا فقد وقع في الدهرية والزندقة التي أشرت إليها في كلامك.
ولكن أنبهك إلى أن الخلق الإلهي بالاستحالة ليس كخلقنا نحن الشيء من الشيء، فنحن لا نخلق الشيء إلا تحويلا من مادة سابقة عليه اضطرارا، وخضوعا لسنة إلهية في الأسباب لا انفكاك لنا منها، فيجب في حقنا من أجل أن نخلق شيئا أن يكون بين أيدينا مادة نخلقه منها، وهو ما يجعل تسلسل ذلك إن قدرناه، تسلسلا للعلل، وأما رب العالمين فلا مكره له ولا مضطر له، ولا ملجئ له، فهو خالق كل شيء لا شريك له، وهو العلة الأولى سبحانه، لا يتقدمه شيء.
فلو شاء سبحانه لأعدم كل شيء، ثم خلق ما يريد من غيرما مادة أو مخلوق قبله! لو شاء لأعدم الماء الذي خلق منه السماوات والأرض، ثم لأحدثهما من غير مادة، فلا يكون قد خلقهما منه كما جاء الخبر، ولكن بعده وفي محله (وإذن لما جاء الخبر بأنه خلقهما “من” الماء والدخان)، لا يعجزه ذلك. ولو أنه شاء لخلق نفس هذا الماء من قبل بالتحويل من شيء متقدم عليه كما خلق السماوات والأرض منه، وهذا بدوره من شيء قبله، وهكذا لا إلى أول. أي أن وجود فترات يعدم فيها وجود كل مخلوق ولا يكون فيها إلا الله تعالى، ثم يستأنف الخلق من لا شيء، هذا على الجواز العقلي لا الوجوب ولا الامتناع. أو بعبارة أخرى: تسلسل الخلق بالاستحالة (شيء من شيء بلا أول) حكمه الجواز لا الوجوب ولا الامتناع، لأنه لا يمتنع عقلا ولا نقلا أن يكون سبحانه لم يزل يخلق المخلوق بعد المخلوق بالاستحالة، إذ ليس يجب عقلا وجود السابق من أجل أن يوجد اللاحق، فإن هذا ما حقيقته تسلسل العلل الممتنع. ولا يلزم من هذا إثبات مادة معينة قديمة مع الله تعالى، كما يتهمون به الشيخ رحمه الله! فإن قيل إن المادة التي هي بمعنى وجود ما يخلق منه بالاستحالة، يجوز أن يكون قديما، فصحيح على الوجه الذي بينا، إذ لا يكون للمادة التي يخلق منها الشيء بالاستحالة، بقاء في المخلوق منها، فآدم خلقه الله من طين، ومع هذا فليس في مادته الطين! وإن اشترك البشر مع الطين في بعض العناصر الكيميائية، مثلا، فلا يلزم أن يكون ما كان في السابق هو عين ما في اللاحق من مادة! ولا يلزم أن يكون الطين نفسه مخلوقا من شيء كانت فيه نفس تلك العناصر، بحيث يتصور أن يثبت القدم لمادة معينة مع الله تعالى، هذا ممتنع! فصورة تسلسل الخلق بالاستحالة التي نقول بجوازها لا يلزم منها قدم مادة معينة، بحيث لا يزال الله يخلق منها ما يخلق، هذا شرك وهو قول الفلاسفة. الاستحالة التي نثبتها لله تعالى (بصرف النظر هل تسلسلت حقا في الماضي أم لم تتسلسل) تتحول بها عين إلى عين أخرى بالكلية، وإن كانت مخلوقة منها بكلمة التكوين، ولا عبرة بمشابهة اللاحق للسابق في شيء من صفاته!
ولهذا فقد يختلط الأمر على بعض المنتسبين إلى أهل السنة وإلى شيخ الإسلام في مسألة تسلسل الحوادث هذه، يقول قائلهم: تسلسل الحوادث عند الشيخ على الجواز لا الوجوب! مع أن هذا القائل إنما يقصد في حقيقة الأمر تسلسل الحدوث بالاستحالة، كخلق العالم من الماء، وخلق آدم من الطين ونحو ذلك، فهذا لا يكون من تسلسل الفاعلين الممنوع، إلا على اعتقاد الدهرية الذين يجعلون وجود المادة سلفا (أي مادة معينة) شرطا عقليا لحدوث ما يثبتون حدوثه من الموجودات، على طريقتهم في القياس والإطلاق الميتافيزيقيين، وإلا فهو تسلسل جائز الوقوع على ما تقدم، أي يجوز أن يكون الأمر قد وقع على هذه الصورة: أنه لم يزل يخلق شيئا بالاستحالة من شيء قبله، بلا أول، دون أن يكون من المواد أو الأعيان ما هو أزلي أو قديم معه سبحانه. ويجوز كذلك أن يكون قد خلق عدة أشياء بالاستحالة من بعضها البعض، ثم أعدم كل ذلك وأحدث خلقا جديدا من العدم، ثم لم يزل يخلق من ذلك الجديد بالاستحالة (كما خلق السماوات والأرض من الماء الذي كان تحت العرش)، ولا يمتنع أن يكون قد مرت فترات متكررة قد خلا فيها الوجود من شيء مخلوق البتة، فلا يكون فيها إلا الله وحده، بفترة أولى أو بلا فترة أولى، وبين كل فترتين، خلق سبحانه من خلق بالاستحالة، كل هذا لا نثبت فيه شيئا ولا ننفي، لأنه لا خبر ولا سمع فيه، ولا يمنعه العقل.
فالسلاسل الجائزة والواجبة والممنوعة عندنا تحريرها كالتالي:
– سلسلة العلل (على المعنى الذي حررناه): ممنوعة عقلا
– سلسلة الحوادث: واجبة عقلا، لأن تقدير حادث أول يوجب النقص والتعطيل لرب العالمين.
– سلسلة الحدوث بالاستحالة: جائزة عقلا غير ممتنعة ولا واجبة، ومن قال بوجوبها تزندق!
– سلسلة فترات العدم المحض لما سوى الله تعالى: جائزة عقلا، وقد يفهم وقوع فترة بهذا المعنى من رواية “كان ولم يكن شيء معه” أو “غيره”، على تقدير صحتها، خلافا للأشاعرة الذين يتعلقون بها لإثبات ابتداء جنس الحوادث بعد أن لم يكن، وهو ما نقطع بأنه لم يخطر ببال أحد من السلف قط!
ثم إننا لا نثبت تسلسل الحدوث بالاستحالة ولا ننفيه (من جهة الوقوع)، ولا نثبت وقوع الفترات المذكورة فضلا عن تسلسلها، ولا ننفيه كذلك، فهذا كله غيب لا يعلمه إلا الله، ولم يأت به الخبر.
والخلاصة، بارك الله فيك، أن معركتنا مع من يوجب تسلسل الحوادث بالاستحالة، لا مع من يجيزه!
فهل اتضحت المسألة بارك الله فيك؟
قال الأخ: جزاك الله خيرًا يا شيخ على هذا المجهود الرائع، وحقيقة سعدت جدّا لذلك لأنه فعلًا وسّع مداركي في المسألة، سأكتب الان بعض المعلومات التي أراها مركزية في ما فهمته ثم سؤال لعلي افهم بشكل اكبر بارك الله فيكم.
ما فهمته:
• هناك فرق بين التحويل (الذي يكون “المُحول منه” فيه شرط وجود “المحول اليه” ويكون علة فاعلة أو سبب في وجوده، فإن عدم هذا السبب عدمت النتيجة أو ما أطلقت عليه “سبب ضروري
في وجوده) وهذا تسلسله ممتنع
• والاستحالة والتي هي خلق مخلوق في محل سابق يكون في خلقه في ذاك المحل افناء للسابق وليس يشترط فيها افناء السابق، إنما حاصل الأمر أنه كان فعل إفناء السابق هو نفسه فعل خلق الجديد أي فعل له نتيجتين وهو افناء موجود وخلق موجود محله، واما وجود المخلوق الجديد فهو جاء من كلمة التكوين ولا يكتسبه من المخلوق الذي فني بسبب خلق هذا محله، وهذا تسلسل جائز بشرط أن لا تكون بهذه الصورة (لا يخلق مخلوق إلا بأن يكون هناك موجود قبله سيفنى وفنائه سيكون سببًا في وجود الجديد).
ما أحب أن افهمه الآن:
انا سأكتب عدة صور وحكم امتناعها من عدمه وصحح لي سحب ما فهمت
سلسلة من التحويل، يكون فيها المحول منه شرط وجود المحول اليه اذ لولا ان كان موجودا وتم تحويله لما وجد الاخر، فتحويل شيء فرع عن وجوده، ووجود الجديد فرع عن تحويل السابق، فاذا السابق سبب في وجود اللاحق.
وهذه سلسلة سببية يستحيل تسلسلها عينًا،
الثاني:
إنما قد تتسلسل نوعًا بدون تاثير سببي متصل بلا أول، بحيث يقال، يخلق الله مخلوق من مخلوق سابق بالتحويل، ثم يخلق مخلوق اخر، ولكن كل سلسلة سببية من المخلوقات لها بداية، ولو كان نوع هذه السلاسل المنفصلة عن بعضها البعض لا بداية له زمنيا وكل واحدة منهم على حدا لها بداية. وهذه جائزة.**”
قلت: الحمد لله وحده، أما بعد:
فنكتة المسألة، بارك الله فيك، في فهم معنى الاستحالة التي ننسبها إلى الله تعالى. فالاستحالة هي خلق اللاحق، بكلمة التكوين، من مخلوق سابق له على غير مثاله، بحيث تتحول مادته إلى مادة أخرى بالكلية، ليس على أثر طبائع قائمة في مادة أولية تكون هي الحاكمة لصفة المخلوق الجديد، كما يكون في خلقنا نحن ما نخلق، وكما هو اعتقاد الدهرية في طبائع قديمة أزلية لم تزل تنشئ الأكوان وتفنيها في سلسلة لا أول لها ولا نهاية، فيكون كل كون منها معللا تعليلا تاما بطبائع تلك المادة الجوهرية التي لم تزل تتحول من كون إلى كون، ولكن على أثر تكوين إلهي جديد لمادة جديدة وطبائع جديدة، كما يشاء ربنا سبحانه! فهؤلاء مذهبهم موجب لتسلسل العلل الفاعلة التامة Regress of complete causation، لأنه بدون الطبائع الأزلية المزعومة والكون السابق المخلوق منها أو بها، لا يتصور وقوع الكون اللاحق ولا وجوده، لأن السابق يكون على مذهبهم، خالقا للاحق معللا له تعليل فاعلية، وهم يعلمون ذلك ولا يرون به بأسا! وآية التسلسل أنهم إذا قيل لهم: فتلك المادة السابقة من أين نشأت وما الذي ركب فيها تلك الطبائع؟ فلن يجدوا إلا أن يقولوا: نشأت من مثلها وتحت طبائع مشابهة أو مطابقة! وهذا كله من تسلسل العلل الفاعلة من هذا الوجه.
أما الاستحالة التي تقع في خلق الله تعالى لما يخلقه على غير مثال سابق، فهي تحويل على الحقيقة وتغيير لحقيقة المخلوق القديم وتبديل لمادته وكيفيته، إلى حد قد يكون وكأنه خلق في محل خلق كما تفضلت، فهو تغيير وتحويل لا يشترط فيه بقاء مادة معينة أو قيام طبيعة أو سنة معينة باللاحق كما في السابق، بحيث يكون وجود اللاحق معللا بكون السابق مخلوقا منها، وبطبائعها، كما هو اعتقاد الدهرية، فأنت ترى أن الله تعالى خلق آدم من الطين، ومع أن الطين فيه كربون، وكذلك جسم آدم، إلا أن وجود ذرات الكربون في جسم آدم لم يكن مشروطا بوجودها في الطين، بمعنى أنها كانت فينا بسبب كونها في الطين، ولولا هذا ما وجدت فينا، على طريقة: ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك درهما قبله، فإن لم أعطك قبله لم أعطك إياه! وإنما نقول خلق الله من طين (ولعله كان من صفته وطبعه التركب من الكربون كما نعرفه، وإن كان لا يلزم) مادة جسم آدم التي اقتضت حكمته أن يجعل من صفتها وطبعها كذلك التركب من ذرات الكربون وغيرها. فهل بقي من الذرات القديمة في طينة خلق آدم، شيء عند التحويل، كذرات كربون أو غيرها؟ نقول إن هذا يجوز ولا يمتنع عقلا، والله أعلم هل وقع أم لا، ولكن لا نوجبه، خلافا للدهرية الذين يقولون يجب اتصال المادة واتصال الطبائع فيها، لأنها هي الخالق عندهم!
فهذه الاستحالة يجوز عقلا أن تتسلسل في فعل الله تعالى وخلقه، فقط على الشرط الذي ذكرنا، لا على سبيل بقاء مادة معينة أو سنة كونية معينة في الجميع بحيث تكون هي ما ينشئ اللاحق من السابق بلا أول! فوجود الطين قبل خلق آدم كان ولا شك سببا من أسباب خلق آدم، لأنه لا يقال خلق كذا من كذا، إلا وجب أن يكون التحويل من الأول سببا في وجود الثاني، ولكنه ليس على وجه العلة الفاعلة كما يعتقده الطبيعيون في الطبائع التي تخلق كل حادث أو كل كون جديد من مادة سابقه!
فما دمت لا تثبت في مادة من المواد أو عين من الأعيان أو طبع من الطبائع، اتصالا من الأزل بلا أول، فأنت سالم من اعتقاد الفلاسفة بقدم العالم، ولا يرد عليك شيء مما تلزمنا به الأشاعرة وغيرهم في هذا الباب، والله أعلم.
قولك: ” سلسلة من التحويل، يكون فيها المحول منه شرط وجود المحول اليه اذ لولا ان كان موجودا وتم تحويله لما وجد الاخر، فتحويل شيء فرع عن وجوده، ووجود الجديد فرع عن تحويل السابق، فاذا السابق سبب في وجود اللاحق. وهذه سلسلة سببية يستحيل تسلسلها عينًا،”
قلت: نعم صحيح. ومثاله قد ضربته لك فيما تقدم في كلام الطبيعيين في تعليل هذا الكون بكون سابق عليه قد خلقه بطبائع مادته، وذاك من مثله قبله، وهكذا.
قولك: ” إنما قد تتسلسل نوعًا بدون تاثير سببي متصل بلا أول، بحيث يقال، يخلق الله مخلوق من مخلوق سابق بالتحويل، ثم يخلق مخلوق اخر، ولكن كل سلسلة سببية من المخلوقات لها بداية، ولو كان نوع هذه السلاسل المنفصلة عن بعضها البعض لا بداية له زمنيا وكل واحدة منهم على حدا لها بداية. وهذه جائزة.”
قلت: نعم صحيح، لا إشكال في هذا.
أرجو أن يكون هذا الجوب قد قام بالمطلوب، وأزال الالتباس، والله الموفق للرشاد.
فقال الأخ:
نعم وجوبها يقتضي سلسلة سببية متصلة كل واحد من السلسلة مؤثرا بما بعده ومفتقر لما قبله الى لا اول
اما امكانها فنعني به تسلسل افعال الرب بحيث يكون مفعولاته سلاسل سببية متصلة ومتعاقبة زمانيّا من الازل والى الابد لكن لا ندري بذلك سمعا او عقلا
سلسلة استحالة قبل سلسلة استحالة قبل سلسلة استحالة والقبل هذه زمنية
فالسلسلة الواحدة تتضمن ولا شك تاثير سببي فيما بينها لكن لها بداية
لكن لا اتصال سببي بين هذه السلاسل المتعاقبة فهم ليسوا كلهم سلسلة واحدة سببية كما هو مذهب القائلين بالوجوب
انما هو سلسلة حوادث من حيث كونها افعالا للرب يعني باختصار تسلسل الاستحالة عندنا يعني فعل استحالة بعد فعل استحالة لا الى اول كما هو فعل كلام بعد فعل كلام لا الى اول ويكون التسلسل في ذات الرب فعلا بعد فعل واما في الخارج فهناك سلاسل متفرقة او اعيان مخلوقة منفصلة
فقلت: “فعل استحالة بعد فعل استحالة لا إلى أول” على الجواز لا الوجوب ولا الامتناع، فما معنى “وأما في الخارج فهناك سلاسل متفرقة .. إلخ”؟؟ هل تقصد الوقوع، أي ما وقع تحقيقا؟ أم أن ما تقدم نثبته في الذهن لا في الأعيان؟
قال الأخ: نتثبت جوازه في الذهن.
قلت: أنت إذن تتكلم عن الوقوع في الأعيان، والجواز في الأعيان والامتناع في الأعيان، أي أحكام الوجود في الأعيان، فلا وجه للتعبير بقولك “في الخارج”، بارك الله فيك. وإذن فالوقوع ما أدراك أن ما تذكره هو الواقع؟ الله أعلم هل خلق الماء والعرش من شيء قبلهما بالاستحالة أم من العدم المحض، بل نثبت جواز وقوعه في الخارج، جواز أن يكون هو ما وقع تحقيقا في الخارج. إنما يقال “في الذهن” لما لا وجود له خارج الذهن.
قال: نعم هذا ما قصدته اقصد نقصد جوازه ولا ندري هل وقع ام لا بغير الشرع والحس
العقل لا يوجب وقوعه
قلت: نعم، التدقيق في المصطلحات في هذا الباب مهم للغاية بارك الله فيك، أكثر ما يقع من خلاف الناس في هذا راجع إلى سوء العبارة.
هذا ومن المهم التنبيه على مغالطة بعض المتفلسفة المنتسبين إلى الشيخ رحمه الله، في قولهم إن الاستحالة هي الصورة الوحيدة التي نراها للخلق والإحداث، لا نرى حولنا إلا هذا، وإذن فلا يتصور إحداث شيء إلا من مادة! فإن هذا الاستدلال وتلك الطريقة ليست من كلام الشيخ ولا من طريقته، وإنما هو من استدلال الفلاسفة الماديين الذين تشبع هؤلاء بكلامهم وحرصوا على تلبيسه بكلام الشيخ رحمه الله! فهم من يقولون إن النظر في العالم (على طريقة الفلاسفة في ذلك) يجعل مبدأ الإحداث، إحداث أي شيء، معللا “عقلا” بالتحويل من أصل سابق، لا من عدم محض، وإذن فلا يكون الخلق (وتأمل الإطلاق الميتافيزيقي الفاسد) لا يكون إلا من مادة سابقة موجودة سلفا، وهذا ما بمثله قال الفلاسفة الأولون بقدم العالم، فانتبه!! ولهذا قالوا لا يجوز حدوث شيء من غير مادة متقدمة عليه! أو بعبارة أخرى: لا يجوز حدوث شيء من لا شيء! لا يجوز لماذا؟ لأن القياس التحكمي الميتافيزيقي هذا يمنعه، لا لأن العقل يمنعه! لأنه على هذه الطريقة التي تحصر جنس الموجود في موجودات العالم وحقائقها وكيفياتها، لا يكون لوجود تلك المادة التي ليس في الوجود غيرها عندهم مرجح إن قدروا عدمها! فالمعدوم لا يحدث نفسه! نحن نقول إن مشيئة الباري جل شأنه هي التي ترجح حدوث الشيء بعد عدمه، فلا مانع من أن ترجح وجود عالم كامل بمادته وسننه بعد عدم محض، أما هم فلا وجود لغير المادة عندهم أصلا، فلا مدخل لتقدير عدمها، فوجب القدم! هذا القياس الذي حُصر به معنى الخلق والإحداث في التركيب من مواد موجودة سلفا، هو ما به قالوا: إذن فلم يزل من الأزل ثمة مادة ينشأ كل حادث عن تغير هيئتها أو حالها، ثم لما ظهر المذهب الذري صارت تلك المادة هي الجواهر المزعومة، وهذا كله نظر دهري فاسد لا نقول به ولا نجيز نسبته إلى الشيخ!
هذا والله أعلى وأعلم، وهو الموفق إلى سواء السبيل.
أبو الفداء ابن مسعود
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين