كتب

معيار النظر، بين قوة الطرح وسطحية النقّاد

ردا على ما سماه بعضهم بالرد على كتاب المعيار

الحمد لله وحده، أما بعد، فقد دفع إلي غير واحد من الإخوة المتابعين وفقهم الله بكلام نشره شاب من شباب مركز تبصير، قيل لي أن له شهرة بين متابعينا على القناة من الباحثين المهتمين بقضايا الفلسفات المعاصرة، لا سيما ما يتعلق بالعلم الطبيعي وفلسفته، وأنا لا أعرفه ولم أسمع به قبل اليوم، لكن الإخوة يعرفونه، هداه الله وأصلحه.

ووالله وددت لو أني وجدت عند هذا الأخ من الرد العلمي الرصين ما أنتفع به وينتع به الإخوة، لكن للأسف إلى الآن لم أقف عند هؤلاء الإخوة في نقدهم الكتاب على شيء إلا وجدته مشحونا بسوء الفهم والافتراء والعجلة بل والأجنبية المحضة عن أصل المبحث عند أصحابه من الفلاسفة المتخصصين، تعصبا لمعظميهم الذين رددت عليهم على هذه القناة وغيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! غاية ما استطاع أن يظفر به أحدهم إلى الآن، مما هو غلط فعلا، هو خطأ وقعت فيه في اسم هذا الفيلسوف أو ذاك، وما شاكل ذلك مما لا تأثير له على صلب الدعوى التي وضعت الكتاب لأجلها! ومع ذلك فكثير منهم يدندنون في كل مناسبة على أن الكتاب عظيم الخطر، بل هو أخطر من كتب الملاحدة، لأنه بزعمهم يبغض المسلمين في العلم التجريبي كله ويصدهم عنه بالكلية!

وهذا والله كلام من لم يفهم ما قرأ، إن كان قد قرأ! فإن جميع من يتابعونني ويسمعون محاضراتي في سلسلة بيان منهج أهل السنة في التجريبيات، يعلمون أن الأمر ليس كذلك أبدا! وإنما ندعو إلى التفصيل الدقيق فيما يرده المسلم وما يقبله من هذه العلوم، ولأن يفيق الغارقون في أوحال العلموية الغالية من ذلك المرض العصري العضال، الذي سماه بعض هؤلاء الإخوة أنفسهم بدين العلموية! وأعني بالتفصيل الدقيق هنا أن ينظر الإنسان في أصل الدعوى التي ينقلها عن القوم، ومنهج النظر فيها وطريقة الاستدلال ووجه الدلالة، وأن يفرق بين دلالة الحس الصريح، التي لا يجوز لعاقل أن يكذبها، وبين تأويل المحسوس في التجارب والرصديات التي يستند إليها الطبائعيون في نظرياتهم، فإن هذا النوع منه ما تُقبل دلالته بتوجيه عقدي ضروري وفي حدود عقلية ضرورية، ومنه ما ترد على أصحابه من بابها ولا كرامة، لأسباب عقلية لو تجرد القارئ من هواه ومن نقمته على مصنف الكتاب وفهمه فهما صحيحا، لما وسعه إلا أن يقبلها! وهذا المسلك التفصيلي في بضاعة الفلاسفة، سواء كانوا طبيعيين أو غير ذلك، هو مسلك الأئمة من أهل السنة من قبلنا، رحمهم الله تعالى، وليس بدعا من القول ولا اختراعا أحدثته أنا من كيسي!

فمن كان قاصرا عن فهم التفصيل الذي جئنا به، فليتق الله في نفسه ولا يصد الناس عن حق لا يفهمه! ثم إن كثيرا منه ليس جديدا على الفلاسفة المتخصصين في تلك الأبواب، فلماذا استشنعه هؤلاء هذا الاستشناع؟؟ لأن في النفس ما فيها من الفتنة بتلك العلوم، كفتنة المتكلمين الأقدمين بالمنطق الأرسطي وميتافيزيقا الجوهر والعرض، ولنفس السبب بكل أسف! وهي فتنة تحجز أكثرهم عن مجرد محاولة فهم ما يتوجه به أحدنا من النقد لأصول كثير من الدعاوى المسلمة عندهم! أنا مخرف جاهل بالضرورة من قبل أن يحاولوا فهم كلامي! نبدأ من هذا الاعتقاد، ثم ننظر كيف نحمل ما في الكتاب عليه! ثم إن أكثر هؤلاء لا يحسنون الإنجليزية، التي هي لغة تلك العلوم، ولا يصلون إلى كتبها إلا قليلا، بل ينتظرون صدور ترجمة الكتب إلى العربية، فإذا صدرت، لم يدخلوا إلى تلك العلوم وفلسفتها إلا تبعا لاختيار من انتقى تلك الكتب واختارها للترجمة، من حيث لا يشعرون!

خذ مثلا كتابا ككتاب “بنية الثورات العلمية” لثوماس كون. هذا الكتاب أهم كتاب ألف في القرن العشرين الميلادي على الإطلاق في تاريخ العلوم وفلسفتها، بشهادة من لا أحصيهم من فلاسفة العلم الكبار، وهو مترجم إلى العربية مما يربو على عشرين عاما، ترجمه مركز اسمه مركز دراسات الوحدة العربية، لكن هؤلاء الإخوة ليسوا أصحاب تخصص في فلسفة العلم أو في الفلسفات المعاصرة بعموم، ولم يدخل أكثرهم إلى تلك المعمعة إلا من باب ويليام لين كريغ وجون لينوكس ومركز ديسكوفري النصراني ومن شاكلهم ممن تملأ مجالسهم وخصوماتهم مع الملاحدة الأمريكيين شبكات التواصل الاجتماعي، وتروق لعشاق المناظرات والخصومات وهذه الأمور! فلم يمروا عليه، على أهميته في بابه وموضوعه، ولو قرؤوه فلن يفهموا أكثره لقلة الأهلية في العلوم التجريبية لا سيما في الفيزياء خاصة! فحسبهم ما ترجمه أصحابهم من كتب ترويج العلوم أو نصرنتها، ثم ليعترض أحدهم بعد ذلك على ما يحلو له، والله المستعان!

لن أتتبع منشورات هذا الشاب هداه الله وأصلحه، فالوقت أضيق من ذلك، بل سأتكفي بالتعليق على ما نشره منها إلى الآن، لأن القارئ للرد إذا رأى بعينيه مصداق ما أرميهم به من سوء الفهم ومن العجلة والتعصب ضد الكتاب والتحامل على كاتبه، فإن المقصود من الرد يكون قد حصل وانتهى الأمر!

مقدمة:

الرجل، واسمه علاء حسن إسماعيل، يعلم أن الكتاب واقع في سبع مجلدات، ومع هذا لم يصبر على نقده حتى يتم قراءتها بتمامها! فلماذا تكلفت قراءة المجلدين الأولين يا أخانا ما دام الرد عندك حاضرا بالفعل، ويكفيك لتحريره أن تقلب صفحات الكتاب في جلسة واحدة كما صنعت مع المجلدات الخمس الأخرى؟؟

يقول في مستهل منشوره الأول:

“كتاب (معيار النظر) للدكتور أبي الفداء، كنت متشوقًا لقراءته منذ فترة، إلا أنني بعد الانتهاء من مجلدين كاملين، وقراءة فصول من بعض المجلدات = تبيَّن لي أن الرجل رغم سعة اطلاعه على فلسفة العلوم، إلا أنه ينطلق من منطلقاتٍ فاسدة أدته إلى نتائج مضللة.”

قلت: مجلدين كاملين؟ مجلدان من سبع مجلدات يعني أقل من ثلث الكتاب يا رجل! فما وجه قولك “كاملين”؟؟ قل إنك لم تصبر على المواصلة فقصرت عن بلوغ ثلث الكتاب، وليس أنك “قرأت مجلدين كاملين”، فإنه لو كان مقصود الكتاب يتم بهما لما تكلفت شيئا فوقهما أصلا! لا تغشوا قراءكم وتوهموهم بأنكم قد قرأتم قبل الرد، وأنكم تؤسسون الحكم على ما تقرؤون! لا والله، وإنما هي قراءة معتقد جازم ببطلان ما في الكتاب من قبل أن ينظر فيه أصلا، هدانا الله وإياكم.

موضوع الكتاب جديد على أدبيات الباحثين في العقيدة والفلسفات المعاصرة، وفيه من نقد النظريات المعاصرة ما لم يقرأ هؤلاء الإخوة نظيرا له من قبل! فهل يلزم من ذلك أن يكون جنس ذلك النقد بحيث أنه لا قائل به في العالم غيري؟؟ لا يلزم! ثم حتى لو سلمنا بأنه كذلك، فهل إجماع الطبيعيين على نظرية من نظرياتهم إن أجمعوا، هو في نفسه حجة عندكم في أي عصر من العصور؟؟

ما تحريركم لهذه القضية المنهجية وأين الخلفية اللازمة من دراسة تاريخ العلم وفلسفته، وفهم مضمون الإجماع وموضوعه في كل نظرية، قبل الإقدام فيها على قبول أو رد؟؟ لماذا لم يزالوا يتحولون من إجماع إلى إجماع، فيصبح الأول وكأنه لم يكن، وما نوع الأدلة التي يمكن – مبدئيا – أن ينقلب الناس فيها من إجماع إلى إجماع مضاد على هذه الصورة العجيبة؟؟ هل مثل هذا يكون الاستدلال فيه بالحس المباشر الصريح غير المؤول، الذي لا يكون منكره إلا مكابرا للمحسوس، كما يتوهمه كثير من الناس؟ بالقطع لا! فما حدود الحس الصريح وما مبلغ التأويل، وما الموقف منه، ما الذي يقبل منه وما الذي يرد، وما توجيهنا لما نقبل، وما تأثير ذلك كله على اعتقاد المسلمين في الغيب عامة وفي الإلهيات خاصة؟ هذا باب لم نر أحدا تكلف التفصيل فيه من قبل، مع أنه من فروض الكفاية على المسلمين في زماننا هذا، التي يأثم الكافة إن لم يقم بها بعضهم! فعوضا عن أن يأخذ هؤلاء بأسباب ذلك، حسبة لله تعالى، وبأسباب فهمه عمن تكلفه، سدا لذلك الثغر العظيم، وطلبا لرفع الإثم عن الأمة، هجموا عليه بجهل ورعونة، لا لشيء إلا لأنه شنع عليهم اقتحامهم ما لا يحسنون، وسيرهم في الباب على طريقة المتكلمين الأولين من حيث لا يشعرون! فنعوذ بالله من التعصب الأعمى، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

أنظر بربك ماذا يقول:

“فهو ينكر أكثر النتائج الحسية والأدلة التجريبية، منطلقًا من نظرية المؤامرة، ويدَّعي أن جُل نتائج العلوم الحديثة من جملة الأكاذيب، فتراه ينكر قانون الجاذبية، وينسبه إلى العادة، جريًا على أصول الأشاعرة. وينكر دوران الأرض حول محورها وحول الشمس ويجعل الأرض ثابتة، غلطًا منه في فهم الآيات، التي جعلت الجنة بعرض السماء والأرض.”

قلت: أنكر أكثر النتائج الحسية والأدلة التجريبية؟؟ “أكثر” هذه على أساس أنك استقرأت نسبة ما أنكرته أنا إلى ما قبلته فيما نشرت وما لم أنشر، فعلمت أني أنكر أكثرها؟؟ ما هذا الكلام؟؟ وأسخف منه قوله “منطلقا من نظرية المؤامرة”! أي نظرية مؤامرة هذه التي ادعيت أنا أن العلم التجريبي كله ماض عليها؟؟ أنا أشد الناس نقضا على من يزعمون أن وكالة ناسا تتآمر على المسلمين لإخفاء الحقيقة بشأن انبساط الأرض، وكل من يتابعني يعلم هذا! مبدأ نظريات المؤامرة، على هذه الوتيرة، وعلى طريقة “قوى الشر التي تحكم العالم” وهذه الأمور، أنا لي كلام قديم كثير في نقضه من أصوله العقلية، بل وبينت أن منه ما قد يبلغ بالإنسان أن يخدش توحيده من حيث لا يشعر، تكلمت في ذلك المعنى في كتاب آلة الموحدين قديما، ولي محاضرة طويلة مخصصة لموضوع نظريات المؤامرة(1) هذا على القناة! لكن هو يعلم أنه لا صبر عنده ولا طاقة على أن يسمع كلاما طويلا لرجل هو يبغضه سلفا، فما أسهل طريقة لهدمه دون تكلف ذلك؟ مغالطة رجل القش! أبو الفداء هذا عدو للعلم كله، ينكر أكثر الأدلة التجريبية لأنه يقول بنظرية المؤامرة! الغرب الكافر يتآمر ضد المسلمين فينشر هذه الأكاذيب كلها بدعوى العلم حتى يفسد عليهم دينهم!!

يقول:

“وهو نفس الذي وقع فيه الشيخ حمود التويجري – غفر الله له – في كتابه (الصواعق الشديدة على أهل الهيئة الجديدة) لما أنكر دوران الأرض ، ولكن خطأ د. أبي الفداء أعظم بكثير ، فإن الشيخ التويجري رحمه الله غير متخصص في العلم التجريبي ولا يعلم القطعيات في العلوم الحديثة، أما هذا فيعلم يقينًا، ولكن ينكر الضروريات لظنه التعارض بين العلم والدين”

قلت: يعني أنا إذن كذاب غشاش، أعلم الحق القطعي في تلك العلوم علما يقينيا، ومع هذا أنكره لأني أظن التعارض بينها وبين الدين!! طيب يا أخي على الأقل احترم التخصص الذي تنسبه إلي، وتعال راجعني واسألني فيما لم تفهم، أو فيما ظننت أني أراه قطعيا ومع هذا أنكره!! كثير من الإخوة المتابعين وفقهم الله تعالى كانوا في أول الأمر لا يفهمون وجه ما أقول في عدة مواطن، ثم لما سألوني على الخاص على صفحة إقناع، واستوضحوا مني كلامي، فهموا بفضل الله تعالى وزال الإشكال! وبعضهم كنت أرسم له الرسومات التوضيحية وأصورها بكاميرا الهاتف وأرسلها إليهم حتى يتضح المقصود، في مسألة دوران الأرض وغيرها، وهم باحثون متخصصون في مجالات الهندسة والفيزياء وغيرها فيفهمون ذلك، ومنهم أخ فاضل هو مهندس في وكالة ناسا، وفقه الله وسدده، كان ولم يزل يعمل هناك، وقد فهموا وتبينوا المراد واقتنعوا بفضل الله تعالى وتوفيقه! فلماذا استغنيت أنت عن السؤال؟ أم أنه قد استقر في النفس حكم سابق على أبي الفداء، فهو كذاب دجال مهما قال؟؟ نعوذ بالله من تعصب يعمي الأبصار!

يقول:

“فالرجل لم يؤت من قِبل فهمه للعلم التجريبي ، وإنما من قِبل فهمه للشريعة وظواهر قرآنية لم يفهم مدلولاتها. والعجيب أنه طيلة الكتاب ينسب فهمه السقيم إلى أهل السنة والأثر، ويرمي كل من خالفه بمذهب الجهمية. مثل هذه التصانيف تسيء إلى الإسلام بشكل عام، وإلى السلفية بشكل خاص.”

قلت: كذاب ورب الكعبة! أين رميت أنا كل من خالفني بمذهب الجهمية؟؟ وإنما قلت إن كثيرا من المتصدرين في دعوة الملاحدة في هذا الزمان قد وافق الجهمية في طريقتهم في تقديم التنظير الفلسفي المعتمد في الأكاديمية على النقل بدعوى أنها قطعيات العقل، وليست كذلك على التحقيق! وقد أطلت النفس في بيان كون ما قدموه وفتنوا به من ذلك ليس كما يظنون، وإنما منعتهم فتنتهم بتلك النظريات من أن ينظروا في أصولها ومنطق الاستدلال فيها نظرا صحيحا كما نظر غيرهم! فإن صدق كلامي وأصابت أدلتي فيه، فهو إذن مذهب أهل السنة وإن كره من كره! وإلا فهو رجل القش الذي إذا أحرقه القوم وأشبعوه تقطيعا وإحراقا، ظنوا أنهم قد قاموا بالمطلوب من النقض والإبطال، وانتهت القضية!

يقول:

“ومعلوم أن السلفية كانت أسبق الطوائف في موافقة العقل الحديث، تعلم هذا من نقض ابن تيمية للمنطق الأرسطي، وتأسيسه للمنطق التجريبي. وقد جعل الإمام ابن القيم مخالفة العلوم الحسية من أعظم الضرر على الدين.”

قلت: كلام مجمل لا يقدم ولا يؤخر! من السلفية هؤلاء؟؟ من تقصد بهم؟؟ ثم ما معنى “العقل الحديث” الذي وافقوه؟؟ وكيف تطلق هذا الإطلاق وأنت تعلم أن أشد الناس محاربة لكثير مما يعد من مسلمات العقل الحديث اليوم، كنظرية داروين مثلا، هم ممن ينتسبون إلى السلفية إجمالا؟؟ أما أن ابن تيمية نقض المنطق الأرسطي فنعم، وأما أنه أسس منطقا آخر في محله، فلا! وهذا كلام يطول وليس هذا محله! وأما أن ابن القيم جعل مخالفة العلوم الحسية من أعظم الضرر على الدين، فحق لا مرية فيه! ولهذا شننت حربا ضروسا على القائلين بالأرض مسطحة الجرم، لأنهم فعلا يفتون المسلمين في دينهم، وحسب أحدنا أن يرى بعينيه كروية جرم الأرض كما رآه بعض الناس حتى يجد نفسه مضطرا إلى تكذيب الشريعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لكن ليس كل ما يزعمه أصحابه علوما حسية فهو كذلك على الحقيقة! القائلون بأن أباك آدم كان سليلا للقردة العليا المزعومة، يقولون إن علمهم هذا من العلوم الحسية، فهل ترى أن من يخالفهم يكون مسلكه من أعظم الضرر على الدين؟؟ لابد من التحرير الدقيق بالغ الدقة والتفصيل في وجه الدلالة الحسية في العلوم المعاصرة ومنطق الاستدلال بالعادة والمحسوس في كل باب بحسبه، وهذا ما أطلت النفس في بيانه بفضل الله تعالى كما لم أر أحدا منكم يفعله! فاتقوا الله واصبروا على ما نشرت في ذلك، فإنه ليس بالباب الهين ولا بالذي يفهمه قارئه في ليلة، هداكم الله!

يقول:

” بسبب مراسلة بعض الإخوة لي بشأن ما كتبته عن كتاب معيار النظر، سأقوم بنقل نماذج من كلام الدكتور أبي الفداء – وفقنا الله وإياه – ونقدها.. وهي نماذج يسيرة سأنقلها في منشورين أو ثلاث، وذلك لضيق الوقت، وإلا فمواضع النقد عليه كثيرة جدا…والله المستعان. “

قلت: وأنا لنفس السبب لن أزيد في الرد عليك على هذا المنشور، ثم لكل امرئ عقله، والله الهادي إلى سواء السبيل! دعونا ننظر فيما انتخبه ليعرضه من مواضع النقد التي وصفها بأنها كثيرة جدا، حتى نعلم كيف يعقل هذا الرجل ما يقرأ.

بداية النقد:

في دعواه أننا نقدم النقل على الحس مطلقًا:

يقول:

” يقول د. أبو الفداء : ” لذا ذكرنا في آلة الموحدين –يعني كتابه القديم- أن إجماعات السلف في مسائل الدين لا يُدانيها في إجماعات أهل العلوم الدنيوية شيء في القوة المعرفية والقطع المنتهي، مهما توافر عليها الناس في عصر من الأعصار! فالعلم كل العلم فيما كان مرجعه إلى: (قال الله وقال الرسول)، وأما سوى ذلك فدونه في القوة المعرفية لا محالة” أهـ
ويقول في موضع آخر : (وقد تقدم أن علم الكتاب والسنة هو أرفع طبقات العلوم البشرية قاطبة نوعا، ليس في شرف المعلوم وحسب، = ولكن في قوة اليقين المعرفي وصناعات العلوم البشرية ” أه

أقول: أولا : هذا الكلام فيه جهل وخلل ظاهر، وهو عقد مقارنة بين (الشرع والحس) في إفادة العلم،، وكذلك مقارنة بين الإجماع الشرعي، والإجماع الحسي أو العقلي. وبيان ذلك: أن تقديم الجنس على الجنس= باطل، يعني تقديم جنس الشرعي على جنس العقلي، أو العكس. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :”وتبين بذلك أن تقديم الجنس علي الجنس باطل، بل الواجب أن يُنظر في عين الدليلين المتعارضين، فيقدم ما هو القطعي منهما أو الراجح إن كانا ظنيين، سواء كان هو السمعي أو العقلي، ويبطل هذا الأصل الفاسد الذي هو ذريعة إلي الإلحاد” أهـ
درء التعارض (١/١٣٧)

قلت: هنا مغالطة واضحة في تصوير مذهب من يرد عليه على أنه يخالف كلام الشيخ رحمه الله فيما نقل.

فأولا أنا لم أقارن أبدا بين الشرع والحس في إفادة العلم كما عبر!! وهل هذا مسلك رجل عاقل أصلا؟؟ وكذلك لم أكتب أبدا في أي موضع من كلامي أن الإجماع الشرعي مقدم على “الإجماع الحسي أو العقلي” عند التعارض كما زعم! هذه هي مغالطة رجل القش بحذافيرها! صور مذهب الخصم في صورة هزلية سخيفة بحيث إذا أجهزت على الصورة التي أخرجتها للناس وهدمتها هدما، يسلم لك الناس بأنك قد نقضت عليه كلامه، مع أن كلامه في واد، وتصويرك أنت في واد آخر، والله المستعان!

كلام الشيخ رحمه الله فيما عبر عنه بقوله “تقديم الجنس على الجنس” وهو أن يقال إن جنس الدليل السمعي مقدم على جنس الدليل الحسي بإطلاق عند التعارض، هذا كلام متين لا غبار عليه، لأن مفاده أنه أيا كان ما يفيد به الحس، فجنس الدليل السمعي مقدم عليه مطلقا، ولو كان حديثا من نصوص الآحاد في أدنى درجات الصحة! وهذا باطل لا يقوله عاقل أبدا! فهل هذا ما قلته أنا؟ أبدا! وإنما قلت، والنقل شاهد بين أيديكم، إن الإجماع السلفي الموروث الذي تتابعت عليه قرون المسلمين في نصوص الدين، لا يمكن أن ينقضه شيء مما يزعمه الناس إجماعا تجريبيا إذا تعارضا! فهل يمكن أن يقع التعارض في شيء مما يزعمه الناس إجماعا تجريبيا، وأن أساسه الاستدلال الحسي؟ نعم قطعا! ولن أتجاوز في ضرب المثل هنا ما أظن أنك لا تخالفني فيه، وهو قول الله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ . فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)) [الحجر : 28 – 30]! هذا يزعم بعض المعاصرين أن الإجماع العصري على الدلائل الحسية يخالف ظاهره، ويمنع من اعتقاد أن الله تعالى قد خلق آدم من طين فعلا كما تتابعت عليه قرون المسلمين!

فهل هذا عندك أنت بحيث يعارضه إجماع حسي عصري، كما ادعاه عبد الصبور شاهين وغيره؟ إن قلت نعم، فقد أرحتنا من عناء الرد عليك! وإن قلت لا، بل الإجماع لا يثبت في مثل هذا ولا أسلم به، قلت لك جميع الأكاديميات العلمية العالمية التي يأخذ منها الناس المعارف التجريبية في هذا الشأن، مطبقة على أن البشر من سلاسة القردة العليا المدعاة، وإنما يخالف في ذلك من يسفههم المجتمع العلمي الغربي ويتهمهم بالشذوذ والجهالة وإن كان منهم أساتذة جامعيون! فإن أردت التفصيل فيما يثبت به الإجماع عند القوم، وفي حجيته إن ثبت، فتعال إلى الأدبيات المتخصصة في ذلك نبين لك، وأنا والله لا أمانع من أن أشرح لك ما يغمض عليك مهما طال ذلك معي ما طال، إن لمست فيك حرصا على طلب الفهم وضبط التصور!

أنا لماذا قلت إن إجماع المسلمين على ما يجمعون عليه مقدم بالضرورة على إجماعات أصحاب العلوم التجريبية؟ لأني أقول إنه يمكن أن يقع التعارض بين المحسوس الصريح وبين السمع الصحيح؟؟ أبدا! بل جزمت في مواطن شتى بأن هذا لا يقع! فكلامي ليس عن المفاضلة بين جنس وجنس كما أنكره شيخ الإسلام، وإنما كلامي عن نوع من أنواع الدعاوى الحسية فيما يأتي به المفتونون بالتجريبيات ليزعموا أن القرآن يخالفه أو أنه يجب أن يعاد تأويله حتى لا تظهر منه مخالفته! هذا ليس من نوع المحسوس الصريح الذي لم يزل الناس يرونه بأعينهم منذ أن نزل فيهم القرآن وإلى اليوم، ولا حتى من جنس ما كان من قبل غير مكشوف للحس المباشر ثم انكشف لحواس الناس اليوم! وإنما هو مما يتفق الناس في الأكاديمية الغربية على تأويل المشاهدات بحسبه، ثم إذا مضوا على ذلك لقرن أو قرنين أو أكثر، انقلبوا إلى خلافه كما حدث ولم يزل يحدث في كثير من مجالات العلوم التجريبية! هذا فيما يقال له النظرية العلمية، لا سيما في الكونيات والتطور وهذه الأمور! ثم حتى ما يتفق عليه الناس من استقراء المحسوس فيما يقال له القانون الطبيعي، فالاستقراء ناقص مهما كمل، فقوته في إفادة المعرفة محدودة لا محالة، مقارنة بما يقطع المسلمون به من معرفة شرعية لم يظهر فيهم من يخالف فيها إلا بدعوه وضللوه البتة!

فإن هذا يأتي على رأسه عندهم التواتر في الثبوت والدلالة، كهذه الآيات التي مثلت لك بها، ولا يقدم على ذلك شيء من أدلة الناس، من حيث قوة الثبوت المعرفي، وليس من حيث ما ينبغي أن يقدم إذا قدرنا وقوع التعارض! التعارض بين الحس الصريح والنقل الصحيح لا يتصور أصلا، كما أن التعارض بين صحيح العقل وصريح النقل ممتنع، ولا إشكال في ذلك! لكن ليس كلامي في هذا النوع أصلا، حتى تطلق أنت وتقول إني أفاضل بين جنس الدليل الشرعي وجنس الدليل الحسي! وإنما الكلام هنا عن إجماعين يتصور وقوع التعارض بينهما ولا يمتنع، أحدهما شرعي والآخر تجريبي، ينسب إلى الاستدلال الحسي نسبة لابد من التحقيق فيها!

فأي النوعين من الدعاوى أرسخ دلالة وأقوى في إفادة المعرفة على التحقيق؟ هذا يحتاج إلى بحث دقيق في أنواع الدلالات التجريبية، حتى يتبين لمن استكمل ذلك أن منزلة الدعاوى الإجماعية عند الطبائعيين هي، على قوة كثير منها ومتانته، لا تبلغ قوة الإجماع الشرعي الموروث، إن قدرنا تعارضهما (ولا يقع ذلك أصلا بين موروث شرعي وبين الاستقراء الصحيح الثابت منها، كالقوانين الفيزيائية المستقرة في الحرارة والكهرومغناطيسية والميكانيكا وغير ذلك)، فكيف بإجماعهم على وهم وقياس تحكمي لا أساس له في الاستقراء الصحيح حتى يكون لإجماعهم عليه إن أجمعوا أي قيمة معرفية على التحقيق؟ هذه هي القضية! لابد من التفصيل في أنواع الدعاوى المنسوبة إلى التجريب والحس، المزعوم فيها الإجماع عند الطبائعيين، وما مستند الاستدلال فيها وطريقه، وما يمكن أن يعارض النقل منها وما لا يمكن، حتى يتضح وجه هذا الكلام! فإن لم تفهم يا أخانا، فراجعني واسألني وسأبين لك بحول الله تعالى! أما أن تضرب كلامي بكلام لابن تيمية رحمه الله تعالى لا يخالف فيه أصغر طالب علم سلفي، فهذا والله من أعيب ما يكون، ويدل على أن وراء الأكمة ما وراءها!

يقول:

(ملحوظة) : تعارض الإجماع الشرعي مع الإجماع الحسي = هو افتراض عبثي، وهو غير وارد أصلاً، وإلا فيه اتهام لعلماء الإسلام انهم اجتمعوا على مخالفة الضروريات !! وحاشاهم.”

قلت: هذا من جهلك أنت وقلة درايتك بما يقال له الإجماع الحسي، ما أنواع الدعاوى التي يدعى فيها، وما مستند ثبوته عند من يقوله! فادعاء أن كل “إجماع حسي” هو من الضروريات، ومخالفه مخالف للضروريات، هذا كلام من لا يدري عن أي شيء يتكلم، والله المستعان!

يا رجل لو وافقك الأكاديميون الغربيون على أن كل “إجماع حسي” هو من الضروريات كما تزعم، لما أجازوا لأينشتاين أن يخالف نيوتن، ولا لنيوتن وكيبلر وكوبرنيكوس أن يخالفوا أرسطو، ولاحتجوا عليهم بأنهم يخالفون الضروريات! لا ضرورة في الإجماع الحسي، إلا ما كان موضوعه المحسوس الصريح غير القابل للتأويل، أي الذي لا يدخله النزاع من جهة التأويل، فيما يعبر عنه الفلاسفة بقولهم Theory Laden Observation!

يعني كل الناس مجمعون على أن الشمس ترى في قبة السماء في وقت النهار! فهذا الإجماع من خالفه خالف الضرورة قطعا! لكن إذا قيل إن الناس مجمعون على أن باطن الشمس فيه مفاعل نووي عملاق يعمل بكيفية كذا وكذا، وصفته كذا وكذا، فهل هذا من خالفه يكون مخالفا للضروريات عندك؟؟ هل شهدت أنت بطن الشمس بعينيك أو شهده أحد من الناس؟ أبدا! هذه تأويلات ارتضاها الكافة في الأكاديمية المعاصرة لما يرد إليهم من جرم الشمس من الموجات والقراءات الطيفية وهذه الأمور! فإن قدرنا أن تغير البارادايم التأويلي السائد في يوم من الأيام، جاز أن تتغير هذه النظرية إلى نظرية أخرى فيما هو كامن في بطن الشمس، ولم يجز لأحد أن يحتج بنقض الضرورة!! فإنزال هذين النوعين منزلة واحدة هو ما يصح فيه أنه عبث وسخف، والله المستعان!

في دعواه أننا لم نحقق مراتب مصادر المعرفة

يقول:

“ثانيًا: الخطأ الثاني الذي وقع فيه الدكتور عدم تحقيقه لمصادر المعرفة وهي (الحس، العقل، الخبر) والحس هو أعلى درجات المعرفة وهو أتم وأكمل من الخبر، نص عليه ابن تيمية – وسيأتي بيانه-. وقد يكون العلم المِتحصَّل من بعض مصادر المعرفة الإنسانية أقوى (من حيث اليقين) من العلم المتحصل من بعض مصادر التشريع، والعكس صحيح، فإن تعارض العقل والنقل في قضية مُعينة= يكون الترجيح للقطعي منهما، فإن كانا ظنيين، ظهر التفاضل والترجيح.. نص عليه ابن تيمية. ثم إننا نقول: إن عقد المقارنة بين الحس والشرع ، وكأنهما في صراع هي سردية غير صحية في البحث المعرفي أو الشرعي، وفيه خلل منهجي؛ إذ ليس هناك تعارض بين هذا وذاك. والدكتور طوال الكتاب -للأسف- يفترض أن هناك صراعًا بين العقل والنقل، بما يجعل القاريء البسيط يقع في خلل التصورات، كما سيأتي..”

قلت: كل هذا من مغالطة رجل القش كما بينا!

ما معنى عدم تحقيقي لمصادر المعرفة، التي هي الحس والعقل والخبر؟؟ أنا ما زعمت أبدا أن الحس الصريح غير المؤول ليس أقوى من الخبر! معلوم أنه ليس من سمع كمن رأى، وليس الخبر كالمعاينة! هذه بديهة لا تحتاج إلى نص ابن تيمية ولا غيره، وأنا ما خالفت فيها أبدا! ولكن الرجل لا يريد أن يفهم! أنا عنده لم أحقق مصادر المعرفة وخالفت ابن تيمية، وأنا جاهل مفتر على الشريعة وعلى العلم التجريبي جميعا، وإن قلت ما قلت! هو يعتقد ذلك اعتقادا يا إخوان، من قبل أن يقرأ الكتاب، وعليه يحمل كلامي، فما الحيلة مع مثل هذا؟؟ الله المستعان!

يقول:

“ثم يكمل د. أبو الفداء ويقول: “ما لم نكن نتكلم عن استقراءات مباشرة للعلاقات السببية المباشرة كقولنا إن (الجسم) إذا ما تركناه مُعلقًا في الجو فسيهبط إلى الأرض لا محالة! وهذا ليس تنظيرًا كما ذكرنا في موضعه، وإنما هو استقراء مباشر. ومع هذا فهو استقراء ناقص مهما كمُل!! (وإن كان يُفيد القطع واليقين في التنبوء المستقبلي)، لا يبلغ منزلة الإجماع الموروث على صحة نصوص صحيح البخاري مثلاً، فضلاً عن التواتر المطلق في ثبوت النص القرآني، إذ لا تزال ثمة احتمالية ولو ضئيلة أن أترك كرة مُعلَّقة في الهواء فتظل ثابتة في موضعها أو ترقى إلى أعلى بدلاً من أن تهبط إلى أسفل، لسبب يخفى عليه وما كنت لأتوقعه ” أهـ قلت: يعقد مقارنة بين صحة البخاري واحتمال سقوط جسم على الأرض، وكأن العلم الحسي، والدين في صراع!”

قلت سبحان الله! يا رجل أنا ما ادعيت أبدا أن الدين في “صراع” مع هذه الدعوى التي مثلت بها ولا مع ما يناظرها! أي عاقل يدعي هذا؟؟؟ وكيف فهمت هذا؟؟ وإنما أردت بيان التفاوت في قوة الثبوت المعرفي بين جنس ما يجمع عليه التجريبيون إذا أجمعوا، وجنس ما يجمع عليه علماء الملة ولا يعرف فيهم مخالف فيه! وإلا فهل يجوز عندك أن ينقلب أهل الإسلام عن إجماع قديم إلى إجماع جديد يضاده أو يناقضه؟؟ هذا يجوز عند التجريبين، وقد وقع كثيرا! فإذا سلمت لي بهذا القدر، ألزمك موافقتي في إثبات مبدأ التفاوت بين النوعين من الإجماعات، من حيث المبدأ (ثم تفصيل ذلك له محله)، وليس بين جنس المحسوس، هكذا، وجنس المسموع من الخبر الشرعي، كما أوهمت الناس أني أقصده!! افهم الكلام قبل أن تعترض هداك الله!

يقول:

“وهذا التنظير السابق فيه مغالطة؛ لأن احتمال ارتقاء الكرة إلى أعلى أو ثباتها في الهواء، فإنما يرجع إلى سببٍ محسوس (تأثير الأسباب) كأن يوجد غاز الهيدروجين أو تأثير الهواء الساخن، أو الغاز الموجود بداخله أخف وزناً، وأقل كثافة من الهواء المحيط.. إلخ.
أما في الظروف المعيارية، فلا بد وأن تقع الكرة على الأرض. والمقصود : سواء هبطت الكرة أو صعدت إلى أعلى = فهذا يعود إلى الحس والتجريب أيضًا، والذي يحاول أن يشكك الدكتور في مصدريته للعلم ! ولعلك تلاحظ أن الدكتور كان يتكلم عن الجسم – في أول الأمر- ، ثم لما أراد أن يِغالط ضرب مثالاً بالكرة حتى يُمرر على القاريء أغلوطته؛ لأنه لا يستقيم له تمرير مغالطته مع الصخور مثلاً. ولا يصح التأويل له بأن يُقال : إن الله قادر على تعطيل الأسباب كما عطل النار عن إحراق إبراهيم، فهذه هي نفس حجة الأشاعرة. ولا يصح الاستدلال بذلك، لأن كلامنا عن الضرورة واليقين في تأثير الأسباب ، لا عن باب الخوارق، أو معجزات الأنبياء، التي لا يشملها قانون ناظم. وإلا لو لم تكن استثناء = لما كانت معجزة أصلاً. “

قلت: سبحان الله! هذه والله هي السفسطة بعينها.

أولا: لا نسلم لقولك “لأن احتمال ارتقاء الكرة إلى أعلى أو ثباتها في الهواء إنما يرجع إلى سبب محسوس” ما معنى محسوس؟ محسوس بالقوة أم بالفعل؟ والحس بالقوة هي المقصود به القوة المعتادة أم القوة المطلقة، بمعنى أن يكون نفس طريق الحس والشعور به خارقا للعادة؟؟ لا يلزم أن يكون السبب محسوسا حال وقوع تلك الواقعة إذا وقعت، وحسبي هنا بإثبات الجواز!

بل العقل لا يمنع من أن يقع ذلك بتعطيل الأسباب كلها المحسوسة وغير المحسوسة كما عطل الله تعالى النار عن أن تحرق إبراهيم عليه السلام! والقصد أن الاستقراء الحسي في الطبائع المادية يبقى ناقصا محدودا مهما كمل، والمنازعة في ذلك محض سفسطة! ولو أردت الآن أن ألزمك من كلامك هذا بمذهب الفلاسفة والمعتزلة في وجوب جريان المادة على الطبائع المعتادة وجوبا عقليا لا يتخلف، ومن ثم بالوقوع فيما أنكرته الأشاعرة عليهم من شرك الطبائعيين، لفعلت، فلا تسفسط علينا تلزمنا بمذهب الأشاعرة هداك الله.

ليس هناك ضرورة في تأثير الأسباب المعتادة، على المعنى الذي تدندن حوله، وإنما يقال إن في اطراد العادة دلالة على استقرار الطبع والتأثير في خلق الباري سبحانه، والاستقرار ليس واجبا ولا ضروريا لذاته كما يفهم من كلامك، وإنما هو مقيد بإرادة الله تعالى وحكمته وتقديره، والكلام في هذا لا يتسع له هذا المقام! وأما زعمك بأني أحاول التشكيك في مصدرية الحس للعلم، فكلام فارغ لا يستحق عناء الرد.

ثانيا: قولك “ولعلك تلاحظ أن الدكتور كان يتكلم عن الجسم – في أول الأمر- ، ثم لما أراد أن يِغالط ضرب مثالاً بالكرة حتى يُمرر على القاريء أغلوطته؛ لأنه لا يستقيم له تمرير مغالطته مع الصخور مثلاً.” لا أفهم له وجها ولا أدري ما الأغلوطة التي أمررها للقارئ إذا قلت الكرة عوضا عن أن أقول الصخرة أو الصخور!! في جميع الأحوال يظل من الجائز عقلا ألا تهبط لأسفل “لسبب يخفى علي وما كنت أتوقعه” كما عبرت في كلامي!!

أنت توجب ألا يقع انخرام للعادة التجريبية إلا لسبب يمكننا مبدئيا أن نتبينه ونقيسه على ما في عادتنا، وهذا يشبه مذهب الفلاسفة الغلاة القائلين بالانغلاق السببي الطبيعي، وأنه لا سبب إلا السبب الطبيعي، فهل هذا مذهبك؟؟ لا أظنه كذلك! فكفاك تشغيبا هداك الله! ما معنى “لا يصح الاستدلال بتعطيل الأسباب” لأن كلامنا عن الضرورة واليقين في تأثير الأسباب لا عن الخوارق”؟ أنا ما ادعيت أن الأسباب لا تؤثر ولا أن تأثيرها ليس يقينيا كما تصور أنت للقارئ! وإنما أردت أن أقول إنك مهما كنت متيقنا من اطراد السنة السببية أو الطبع القار في المادة في دلالة العادة الحسية عندك، فإنك لا تملك أن تقطع عقلا بامتناع انخرامه في المستقبل في واقعة ما، لسبب يخفى عليك، كما أنك تقطع عقلا بامتناع أن تنخرم دلالة التواتر، مثلا، على حجية النص من نصوص القرآن، أو أن تتبدل دلالة النص المعلومة دلالته بالضرورة من دين المسلمين في يوم من الأيام! هذه هي المسألة بإيجاز، وبعيدا عن السفسطة والسخف، فهل فهمتها الآن؟؟ الله المستعان!

يقول:

“يقول د. أبو الفداء : “فليس ثمة احتمالية ولو ضئيلة لظهور قادح من القوادح في صحة ثبوت أمثال تلك النصوص في يومٍ من الأيام وصحة نسبتها إلى من نسبها الإمام البخاري إليه (الرسول عليه السلام أو غيره)، بل هو محال! فمن تدبر في ذلك ونظائره بان له الفرق وانكشف له الميزان” أهـ أقول: ما زال الدكتور يعقد مقارنة سخيفة بين الحسيات والشرعيات، فيعقد مقارنة بين صحيح البخاري والإجماع الحسي، وكأنهما في خصام !!”

قلت: من جديد، يكرر قوله “وكأنهما في صدام” و”وكأنهما في خصام”، وكأن القارئ الذي قرأ كلامي لا يفهم ولا يميز وجه المقصود! الله المستعان.

النص المجمع على صحته عند البخاري رحمه الله، الذي لم يعترض عليه أحد من أهل العلم، هذا من الواضح أن جنس الإجماع عليه أثبت معرفيا من نوع ما يجمع عليه التجريبيون مما ليس هو صريحا في الحس المباشر، على الوجه الذي بينته! وأنا مثلت بالاستقراء في هذه القضية لأنه أعلى ما يمكن أن يصل إليه التجريبيون من أنواع الدعاوى الإجماعية المنسوبة إلى الدليل الحسي! فإذا كان ذلك ناقصا لا يكمل، ويجوز في العقل أن ينقلب إلى خلافه في يوم من الأيام، فهو أدنى في الثبوت من إجماع المسلمين على صحة النص في صحيح البخاري، فإن هذا لا يتحول أبدا! وهذا واضح! ومع هذا انظر ماذا يقول: “وهي المغالطة التي هو محمل بها طوال الكتاب!”

قلت: أنا محمل بهذه المسألة طوال الكتاب؟؟؟ المجلات السبع كلها لا أتكلم إلا بهذه القضية؟؟ إذا لم تستح فاصنع ما شئت!

يقول:

“وكلامه السابق غلط لما يلي : أولاً: لم يقل أحدٌ من المحققين أن نصوص البخاري قطعية أو أنَّ كلها صحيحة، وإنما قالوا (هو أصح الكتب المصنفة) بصيغة أفعل تفضيل، بمعنى تفضيلها على غيرها، ولا يعني ذلك أنه لا يقع فيه الخطأ بوجه من الوجوه.”

قلت: أنا ما منعت من وقوع ذلك! كلامي كله فيما أجمع عليه المسلمون من ثبوت النص ودلالته، وشاع ذلك فيهم وتوارثته قرونهم، فيقينا لا يصح هذا المثال الذي ضربته بما اختلف العلماء في ثبوته مما في صحيح البخاري!! لكن الرجل يريد كما ذكرت لكم، أن ينقض علي كلامي بأي طريق!

يقول:

“ومعلوم أن المتواتر هو ما يفيد القطع، وهو في السُنة قليل جدًا ومعدود،”

قلت: ليس من مذهب أهل السنة أن المتواتر وحده هو ما يفيد القطع! هذا مذهب أهل الكلام! وإلا فمعلوم أن الأمة قد أجمعت على نصوص في السنة فصارت من قطعي الثبوت والدلالة مع كونها من الآحاد والغريب! والإجماع يفيد القطع قولا واحدا! وأشهر ذلك حديث عمر رضي الله عنه “إنما الأعمال بالنيات”! فأنت الآن تعترض علي بكلام المتكلمين لا بكلام أهل السنة! يا رجل الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض، شفاك الله!

يقول:

“و معظم السنة من الآحاد، والأصل أن الآحاد ظني، إلا أنه يوجب العمل والاعتقاد عند أهل السنة تغليبًا للظن ، كما يوجب العلم إن احتفت به قرائن كثيرة. ودون الدخول في هذا الجدل،”

قلت: ما هذا السخف؟؟ تفتح الجدل على الناس ثم تقول لا نريد الدخول في الجدل؟؟ هذا الخلاف الذي ذكرته الآن، لفظي أم حقيقي؟؟ هل تغليب الظن المفضي إلى إيجاب العمل والإنكار على تاركه، إلا بمعنى القطع في الحقيقة؟؟ ومع ذلك سلمنا بأنه ظن قوي موجب للعمل والاعتقاد، فكلامي يظل قائما أيضا ولا ينخرم! ثم ما معنى أن الأصل أن الآحاد ظني؟؟ هذا يا إخوة هو ما يقال له التشغيب، فاعتبروا!

يقول:

“فلو سلمنا أن كل نصوص البخاري قطعية، فسيظل كلام الدكتور فيه خلل أيضًا؛ لأن الحس أقوى من الخبر، وأتم وأكمل منه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ” فما أفاده الحس معينًا يفيده العقل والقياس كليًا مطلقًا.. والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب، فهو أعم وأشمل ، لكن الحس والعيان أتم وأكمل” درء تعارض العقل والنقل (7/324)”

قلت: هذا لا تأثير له على ما صنفت الكتاب لتقريره كما هو واضح! فالشيخ هنا يتكلم عن مشاهدة الشيء الواحد المعين في الخارج، فإن ثبوته لمن يشهده لا شك أنه يكون أقوى عنده ممن بلغه الخبر به سماعا! ودلالة الحس عليه تكون دلالة خاصة جزئية، خلافا لدلالة الاستقراء على نوعه، فإنها تكون كلية مطلقة. فأين في الدعاوى الطبيعية التي أخالف أنا فيها ما هذه مرتبته، أنه ثابت بالحس الصريح المباشر الجزئي الذي لا يدخله التأويل البتة؟؟ لا يوجد! ودونك من الآن لعشرين عاما تأتي حتى تثبت أني قد خالفت فيما كان دليله أو ثبوته بالحس من النوع الذي يتكلم عنه ابن تيمية في هذا الكلام!

يقول:

“فأنت ترى أن الحس وحده أتم وأكمل من الخبر عند ابن تيمية ،من غير انضمام إجماع الناس عليه، فكيف إذا أجمعوا؟ تدرك من هذا خلل كلام الدكتور في كون توافر وإجماع الناس على الحسيات لا يفيد العلم اليقيني !! وأما التجريب فيأتي بالحس والعقل، فهو يتركب منهما معًا، أي بعد الحس يأتي دور العقل لاستنباط التجربة.

يقول الإمام ابن تيمية (وكذلك المجربات، فعامة الناس قد جربوا أن شرب الماء يحصل معه الري، وأن قطع العنق يحصل معه الموت، وأن الضرب الشديد يوجب الألم، والعلم بهذه القضية تجريبي، فإن الحس إنما يدرك ريًا معينا، وموت شخص معين. أما كون كل من فعل به ذلك يحصل له مثل ذلك، فهذه القضية الكلية لا تعلم بالحس، بل بما يتركب من الحس والعقل)”

قلت: كل هذا والله من السفسطة والتشغيب، فإنه لا يعقل أصلا أن أكون مخالفا في شيء من ذلك! ولو أنه سأل فيما أشكل عليه لبينت له فساد فهمه، لكن لله في خلقه شؤون! يا رجل ليس كل ما ادعى التجريبيون أن طريقه عندهم هو الحس المباشر، ثم أجمعوا على ذلك، وجب التسليم لهم به!! لماذا سلمت لهم عقلك هذا التسليم التام، وكأنما يتكلمون بوحي من السماء؟؟ الرجل عندكم إما أن يكون رادا للعلم التجريبي كله، أو مبتلعا له كله؟؟ اعدلوا يا هؤلاء وتوسطوا هداكم الله، فإن هذا ما يستدرج به شباب المسلمين إلى الإلحاد والزندقة! يستدرجون إليها من جهة ادعاء القطع الحسي فيما هو ضرب من أساطير الآخرين وأوهام وتخرصات الفلاسفة، كما يستدرجون إليه أيضا من الجهة المقابلة، من جهة نفي الدلالات الحسية الصريحة والقطعيات العقلية الجلية، بدعوى أن الشرع يخالفها! كلا الطريقين مفضيان إلى الإلحاد والزندقة، فاعتدلوا يرحمكم الله!

في دعواه أننا نصادر على المطلوب في تفسير النصوص

يقول:

“من إشكاليات الكتاب هو المصادرة على المطلوب، وجرأته في الجزم في تفسير الايات القرآنية وادعاء الحقيقة المطلقة التي من خالفها فقد خالف قواطع القرآن ومن ذلك كلامه عن دوران الأرض، قائلاً: “هذا هو التأسيس المعرفي الذي يدعوك إليه دعاة “العقلانية الطبيعية” المعاصرون: قوانين العلم الطبيعي هي السبب في أنك تكتب ما تكتب على الكمبيوتر وأنك تنعم بتلك التكنولوجيا التي ملأت عليك حياتك بما لم يكن أحد من الأقدمين يتصوره أو يحلم به، وإذن فعليك أن تُسلِّم بصحة دعوى أن (الأرض تدور حول نفسها) خلافًا لخرافات الأولين! ، ودعوى أن الأرض ليست إلا كوكبًا من ملايين الكواكب السيارة التي لا فضل لأيٍ منها على الآخر، وأن العالم نشأ من عدم على أثر انفجارٍ عظيم…”

ويقول في موضع آخر : ” لزمهم تقليد القوم في أمثال تلك الدعاوى الخرافية عندهم، مع اتخاذ ما يلزم من تلاعب بالتأويل للتوفيق بينها وبين النص، كزعمهم أن النصوص ليس فيها ما يتعارض مع القول (بدوران الأرض) حول محورها ” أهـ

قلتُ: فهذا معناه أن الآيات قطعية الدلالة في ثبات الأرض عند الدكتور، وأن كل من قال بأنها ليست فيها دلالة= فهو يتلاعب بالتأويل- كما ذكر- وهذا فيه اتهام للشيخ ابن عثيمين بأنه يتلاعب بالتأويل حيث نفى دلالة الآيات، وتوقف في مسألة الدوران.

يقول ابن عثيمين – رحمه الله- : “أما كون الأرض تدور أو لا تدور، فهذا لا أعلم شيئاً في القرآن أو السنة يؤيده أو يفنده .. ثم نقل أدلة القولين ثم قال: “وعلى كل حال أنا أتوقف في هذا لا أستطيع أن أقول: إنها تتحرك أو تدور ولا أقول: إنها لا تدور، لأنه لم يثبت عندي في القرآن أو في السنة أن ذلك كائن أو غير كائن” أهـ (لقاءات الباب المفتوح) واتهام للألباني أنه يتلاعب أيضا،، فقد جزم بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس أيضا، يقول الشيخ الألباني – رحمه الله- : “نَحنُ الحقِيقَة لا نَشُكُّ فِي أنَّ قَضيَّة دَوَرَان الأرضِ حَقيقةٌ عِلميَّةٌ لَا تَقبَلُ جَدَلاً، فِي الوَقتِ الذِي نَعتَقدُ أنّّهُ لَيسَ مِن وَظِيفَة الشَّرعِ عُمُوماً والقُرآن خُصُوصاً أن يَتَحَدَّثَ عَن عِلمِ الفَلَكِ وَدَقائق عِلمِ الفَلك، وَإنمَا هَذه تَدخُل في عُمُوم قَولهِ -عَليه الصَّلاةُ والسَّلام- الذِي أخرَجَهُ مُسلمٌ فِي صَحيِحِه مِن حَدِيثِ أنسٍ بن مَالكٍ رضيَ اللهُ عَنهُ فِي قصَّة تَأبيـِر النَّخل، حِينَمَا قَال لهُم إنَّمَا هو ظَنٌّ ظنَنتُهُ فَإذَا أمَرتُكُم بِشَيء من أمرِ دينِكم فاتُوا مِنهُ مَا استَطَعتُم، وَمَا أمرتُكُم بشيء من أمورِ دُنيَاكُم فأنتُم أعلمُ بأمُور دُنيَاكُم. فَهذِهِ القَضَايَا لَيسَ من المَفرُوض أن يَتَحدَّثَ عَنها الرَّسُول عَليهِ السَّلَام، وإن تَحَدَّث هو فِي حَديِثِه أو رَبُّنًا عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِه فإنَّما لِبَالِغةٍ أو لآيةٍ أو مُعجِزَةٍ أو نَحوِ ذَلك. وَلذلك فَنستَطِيعُ أن نَقول أنَّهُ لا يُوجد فِي الكِتَابِ وَلا فِي السُّنَّة مَا يُنَافي هذه الحقِيقة العلميَّة المّعروفَة اليَومَ، وَ التِي تَقُول أنَّ الأرضَ كُرويَّة أو أنهَا تَدُور بِقُدرَة الله عَزَّ وَجلَّ فِي هَذَا الفَضَاءَ الوَاسِع. بل يمكن للمُسلِمِ أن يَجِدَ مَا يُشعر إن لم نقل مَا ينصُّ عَلى أنَّ الأرضَ كالشَّمسِ وَكالقَمَر من حيثُ أنها كُلَّها فِي هَذا الفَرَاغ، كما قال عز وجل : ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). لاسيَمَا إذا استَحضَرنا أنَّ قبلَ هذا التَّعميم الإلهي بلفظة (وكلٌّ) هي تَعنِي الكَواكب الثَّلاَثَة، حيثُ ابتَدَأ بالأرض….إلى أن قال: “لا يُوجدُ في الشَّرع أبداً ما ينفِي كرويَّة الأرض، ثُمَّ كرَويَّةُ الأرضِ أصبحَت اليوم -يعنِي- حقيقَة علميَّة ملمُوسَة لمسَ اليد، يعنِي يُتَّهَمُ الإنسَانُ في عقلِهِ أو على الأقلِّ في علمِهِ،فيمَا إذَا جَحَدَ هذه الحقيقَة، لأنَّك اليوم تستطِيع أن ترفَعَ السَّمَّاعة وتتصل مع صديقٍ لك صادقٍ، وتقُول له: الآن إيش عندكُم نهار أو ليل؟، ويقُول لك ليل، في الوقت الذِي يُؤذن عندَنا مثلا لأذان المغرب يؤذَن عندهُم لصلاَة الفجر، أو تكُون قد طلعت الشَّمس، وهذَا لا يمكن تصوُّره أبداً إلاَّ كما يقُول العلمُ هذا التَّجربِي، أنَّ هذا ينتج بسبب دَوران الأوض حول الشَّمس دائرَة كامَة ينتُج من ورائهَا الليل والنَّهار ، ثمَّ أدقُّ من ذَلك حصُول الفصُول الأربعَة بسبب ابتعَاد الأرض عن الشَّمس و اقترابها، وهذَا له تفصِيله فِي علم الفلك وعلم الجغرافيَا ولسنَا في صدده، لكن الشَّاهد أنَّه لا يُمكن أن تحصل هذه الأمور الواضحَة إلاَّ والأرضُ أوَّلاً كرويَّة وإذا سُلِّمَ بكرويتها فلا يُمكن أن يقال بأنَّها ثابتَة” أهـ انتهى كلام العلامة الألباني – رحمه الله -.. وهو كلام عالم متمكن يفهم العقل والشرع معًا.”

قلت: هذا حشو وسفسطة لأني لم أنف أن من علماء أهل السنة من يرى دوران الأرض ولا يرى في النصوص ما يمنعه! ولم أدع أبدا أن الشرع دال دلالة قاطعة على سكونها، وإن كنت لا أعلم أحدا من السلف قال بدورانها، لكن ومع هذا، فلم أحتج على أحد بدعوى إجماع السلف فيها، وإنما احتججت على من زعموا أن الدلائل الحسية قد صارت اليوم بحيث توجب المصير فيها إلى القول بالدوران.
قولك “هذا معناه أن الآيات قطعية الدلالة في إثبات الأرض عند الدكتور، وأن من قال بأنها ليست فيها دلالة فهو يتلاعب بالتأويل”، هذا من تلاعبك أنت بتأويل كلامي ولا حول ولا قوة إلا بالله! أنا إنما أقرر مذهبي في فهم النصوص إجمالا في هذا الموضع الذي نقلته، وأما موقفي من المخالفين، الذين ذكرتُ مرارا وفي غير مناسبة أن منهم علماء على العين والرأس، فمعلوم لا يخفى! الذين يتلاعبون بالتأويل والذين ذممتهم بهذا الزعم ليس العلماء الذين أخطأوا (فيما يظهر لي)، وقالوا إن الأرض تدور، وإنما هم المردود عليهم في سياق الكلام، فلا تجتزئ النقل هداك الله! لن آتي بالنص بتمامه، فإن وقتي أضيق من هذا! هو يحيلك أيها القارئ على موضع من الكتاب، فراجعه واقرأه في سياقه إن أردت أن تفهم وجه الكلام.

ليس في كلامي أبدا اتهام لا للإمام العثيمين ولا للألباني، فلا تلزمني بما لا يلزمني! وقد نشرت بحثا طويلا في مسألة دوران الأرض هذه من قديم، حررت فيه المسألة شرعا وناقشت فيها كلام الشيخ الألباني وغيره، فلتراجع لمن يريد الزيادة. أنا كلامي في هذا الموضع هو بإيجاز في تقرير أن أكثر الناس قد توهموا أن دلالة العلم التجريبي على دوران الأرض قد صارت اليوم دلالة قطعية، وكأنما شهدنا بأعيننا الأرض وهي تدور بالنسبة إلى حافة الكون فعليا، فتحقق لدينا الدليل الحسي القطعي (الذي هو بحيث إن أنكره الإنسان أنكر الضرورة) بأن الأرض هي التي تدور وليس أن ما حولها هو الذي يدور حقيقة، وإذن وجب علينا أن نحمل النصوص على هذا الوجه دون خلافه، وأن نحسم النزاع في التأويل ونوجب المصير إلى هذا المذهب! يا رجل من قال بأن الأرض تدور من أهل العلم، واستظهر ذلك من النصوص، فعلى العين والرأس، لكن لا يلزمني موافقته! وأما من زاحم العلماء وطالبهم بأن يخرجوا عن مذاهبهم في تأويل القرآن، لما لا يرونه من ثبوت حسي، بدعوى خفة العقل والسخف الذي يؤول إليه قول من يخالف ذلك، فهذا من أنكر عليه وأتهمه، والعلماء بفضل الله ليس منهم من يسلك هذه الطريقة النكدة!

فقولك “من إشكاليات الكتاب المصادرة على المطلوب” هذه دعوى لا سند لها، ولم تثبتها بهذا الذي حررته! المصادرة على المطلوب معناها في الاصطلاح أن يأتي الرجل بشيء يريد الاستدلال عليه، فيجعله في مقدمة من مقدمات البرهان المراد منه إثباته! فأين سلكت أنا ذلك هنا أو في أي موضع من الكتاب؟ الله المستعان! أما جرأتي على التفسير، فكيف أكون مذموما بذلك من جهة النظر الشرعي، وأنا باق فيه على ما كان عليه السابقون من أهل العلم، من قبل أن يخلق كوبرنيكوس وغاليليو؟؟ سبحان الله!

يقول:

” ثم يقول د. ابو الفداء ردًأ على د. باسل الطائي (أحد الباحثين) وبالتأسيس على نفس هذه المقدمة الكوبرنيكية التي تؤمن أنت بها يا دكتور، تقليدًأ لأساتذتك الطبيعيين المعاصرين، يلزمك قبول القول بأن عالمنا هذا الذي فيه ذلك الضبط الدقيق لثوابته الفيزيائية بما يُلائم الحياة على الأرض ليست له أي خصوصية أو تفرد، كما أن شمسنا ليس لها أي تفرد بين الشموس الأخرى..وكوكبنا ليس له تفرد بين الكواكب الأخرى وهلم جرا! فهلا تأملت قليلاً في لوازم اعتقادك، ولوازم المنطق الفلسلفي الذي يقوم عليه ذلك الاعتقاد عند أصحابه من الأساس؟ ما محل الاعتقاد الكوبرنيكي الغيبي هذا من البرهان العقلي والنقلي أولاً..” أهـ

أقول: ماذا يريد الدكتور ابو الفداء بتفرد الأرض والشمس؟ إن كان يقصد تفردهما بوجود الحياة على الأرض، فما وجه الإشكال في وجود ملايين المجرات، والنجوم التي حولها كواكب؟ هذه الإشكالية التي طرحها الدكتور هي ذاتها إشكالية الملحد العلموي، والمسلم الذي لا يفهم دينه.. وهي : إذا كانت السماوات كبيرة والفضاء شاسع وفيه ملايين النجوم والمجرات، فهذا يدل على أن الأرض ليس لها خصوصية أو اصطفاء !! ونحن نقول هذا بسبب فهمكم المعطوب للدين، فإننا نعلم أن السماوات أكبر وأكثر تعقيدا من خلق الناس. وعندنا خبر بذلك من الوحي. ألم يقل الله تعالى : (لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس)؟ ثم إن الأحاديث دلت على هذه المساحة الشاسعة و المهولة للكون : ففي الحديث الشريف : (ما السَّماوات السّبع في الكُرسيِّ إلَّا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ) يعني حلقة ملقاة في صحراء شاسعة.
قال شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى) : (والكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقةٍ في فلاة، والجملة -يعني بما فيها الكرسي- بالنسبة إلى العرش كحلقةٍ في فلاة). ومن هنا تعلم أن أبا الفداء ينطلق من فهم (شعبوي) للنصوص الشرعية، وهو فهم طائفة جاهلة اشتركوا مع الملاحدة في الفهم، فطرف أنكر الدين، وطرف ادعى مخالفة الدين للعلم وكابر الضروريات. وقد ذكر ابن القيم أنهما طرفان متضادان، كلاهما يفهم الدين بشكلٍ خاطيء، وضرر المسلم الذي لا يفهم دينه أشد من ضرر الملحد، كما ذكر ابن القيم – رحمه الله – في مفتاح دار السعادة.”

قلت: كل هذه الشقشقة لأني قلت إن مذهب المردود عليه في سياق الكلام ينافي تفرد الأرض وشمسها بخصوصية تدل عليها النصوص، كما هو واضح جلي في نصوص خلق السماوات والأرض المستفيضة في الكتاب والسنة، وكذلك النصوص الدالة على شأن هذه الشمس وما يكون من أمرها في الآخرة! فبماذا يرد على ذلك؟؟ بأن النصوص قد أثبتت أن كل سماء في التي تليها كالحلقة في الفلاة! أين التعارض يا رجل؟؟ هل هذا يا عقلاء، ينقض علي كلامي؟؟

اسألني يا أخي ماذا أقصد بالتفرد إن أردت أن تفهم! لكن هو لا يريد أن يفهم! هو يريد أن يجهل صاحب الكتاب وينسبه إلى ما يسميه بالفهم “الشعبوي” للنصوص! ولا يخفى على طالب علم أن هذا من مصطلحات المفكرين والمتفلسفة ومن شاكلهم وليس من كلام طلبة العلم الذين يزاحمهم هو وأمثالهم! ثم أنت تريد أن تحتج علي بأن السموات السبع في الكرسي كالحلقة في الفلاة، أم على أن الأرض في السماء الدنيا كالحلقة في الفلاة؟ أنا ما تكلمت عن الكرسي أصلا!! لكن سوء الطوية يصنع بصاحبه أكثر من ذلك! سلمنا بأن السماوات عظيمة جدا بالنسبة إلى الأرض، فكان ماذا؟ أنت من توافق الملاحدة في استدلالهم بالعظمة والسعة التي ينسبونها إلى السماء الدنيا، على أن الأرض هباءة لا قيمة لها، ولا يمكن أن يكون لها من الخصوصية ما تدل عليه نصوص جميع أهل الملل الكتابية، من المسلمين واليهود والنصارى! كلامك هو المفضي إلى ذلك وليس كلامي!

نحن نقول على التسليم بأن السماء الدنيا بينها وبين الأرض تلك السعة الهائلة التي يقولون بها، فإن هذا لا ينافي خصوصية الأرض في أيام الخلق، وخصوصيتها بمهبط الوحي الإلهي، وخصوصيتها بالمبعث والمحشر في الآخرة، وخصوصيتها بتسامت البيت المعمور في السماء بالبيت الحرام عليها، وخصوصيتها بأن سجين (جهنم) في الأرض السابعة في جوفها، وغير ذلك مما استفاضت به النصوص، وأهمله المردود عليه وأمثاله! هي عظيمة الشأن بالنسبة إلى جميع ما في السماوات من الأجرام، بصرف النظر عن حجمها بالنسبة إلى ما حولها! الاعتقاد بوضاعة الأرض وحقارتها وأنها هباءة تهيم في جهة مهملة من جهات الكون، هذا اعتقاد كوبرنيكي دهري، أتحداك أن تخرج لي عالما واحدا من علماء أهل السنة قد قبله وصرح بقبوله من بعد كوبرنيكوس وإلى اليوم! ألست ترى فهمي فهما “شعبويا”؟؟ إيتني إذن بالفهم “النخبوي”! هات كلام عالم واحد من علماء الملة صرح بأن الأرض وضيعة mediocre على عبارة كوبرنيكوس، وليس لها أي خصوصية أو فضل في الخلقة والتكوين على غيرها من الأجرام في الكون، وفقا لمبدأ الوضاعة الكوبرنيكي!

خاتمة:

هذا ما تيسرت لي كتابته على ضيف في الوقت، فأكتفي به، وأرجو أنه قد حصل به المقصود من بيان منطلقات هذا الرجل هداه الله في نقده الكتاب، وأنه كغيره من ناقديه، أصحاب نقمة وتعصب وعجلة في الرد، مع غلو وإفراط علموي في “الإجماع الحسي” كما سماه الأخ، من حيث يرون أنفسهم برءاء من ذلك الداء، فسأختم الكلام بأن أمحض إليه النصيحة بأن يتقي الله في نفسه وأن يصبر على قراءة الكتاب بروية وبنفس صافية من النقمة والتعصب السابق، وأن يخاطبني هنا على الخاص بالسؤال عما أشكل عليه من مواضع الكتاب، على الأقل لاعترافه بأني من أصحاب التخصص في هذه العلوم التي زعم أني أسقطتها كلها من أولها إلى آخرها بدعوى نظرية المؤامرة! فإنه والله من المعيب للغاية أن يكون هذا هو منتهى فهم ودراية من يتصدرون في هذه الأبواب باسم السلفية، ثم يقولون إني أكذب على طريقة السلف ومذهب ابن تيمية، وأنسب إليهم ما لا يوافق منهجهم، فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله أولا وآخرا.

أبو الفداء

منقول من قناة إقناع

قناة إقناع غير مسؤولة عن نقل منشوراتها إلى هذا الموقع ، إنما هو عمل فردي من إدارة موقعنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى