أبحاث عقدية

قَاعِدَة فِي معنى كَون الرب عادلا وَفِي تنزهه عَن الظُّلم وَفِي إِثْبَات عدله وإحسانه

رسالة لشيخ الاسلام ابن تيمية

تأليف شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدَّين ابْن تَيْمِية، مِمَّا أَلفه فِي محبسه الْأَخير بالقلعة بِدِمَشْق قدس الله روحه

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين

الْحَمد لله رب الْعَالمين، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أجميعن وَسلم تَسْلِيمًا

فصل

اتّفق الْمُسلمُونَ وَسَائِر أهل الْملَل على أَن الله تَعَالَى عدل، قَائِم بِالْقِسْطِ، لَا يظلم شَيْئا، بل هُوَ منزه عَن الظُّلْم.

لكن تنَازعت طوائف الْمُسلمين فِي معنى الظُّلْم الَّذِي ينزه الله عَنهُ، ثمَّ لما خَاضُوا فِي مسألة الْقدر، تنازعوا فِي معنى كَونه عدلا فِي الظُّلْم الَّذِي هُوَ منزه عَنهُ.

مقالة الجهميَّة والأشاعرة

قَالَت طَائِفَة: الظُّلْم لَيْسَ بممكن الْوُجُود، بل كل مُمكن إِذا قدر الله وجوده، فَإِنَّهُ عدل.

وَالظُّلْم عندهم هُوَ الْمُمْتَنع، كالجمع بَين الضدين، وَكَون الشَّيْء مَوْجُودا مَعْدُوما. فَإِن الظُّلْم إِمَّا:

1- التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر، وكل مَا سواهُ ملكه،

2- أو مُخَالفَة الْآمِر الَّذِي تجب طَاعَته، وَلَيْسَ فَوق الله آمُر تجب عَلَيْهِ طَاعَته.

فهَؤُلَاء يَقُولُونَ: كلّ ما قدّره الله فهو عدل. ويقولون: “كل نعْمَة مِنْهُ فضل، وكل نقمة مِنْهُ عدل.”

وهَذَا أَمرٌ أوهم، وَقَول الْمُجبرَة، كجهم، وَمن اتبعهُ، وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وَأمثاله من أهل الْكَلَام، وَمن وافقهم من الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث، والصوفية.

وقد رُوي عن بعض الْمُتَقَدِّمين كَلِمَات مُطلقَة تشبه هَذَا الْمَذْهَب، مثل:

  • قول إياس بن معاوية: «مَا ناظرت بعقلي كُله إِلَّا الْقَدَرِيَّة، قلت لَهُم: مَا الظُّلْم؟ قَالُوا: أَن تَأْخُذ مَا لَيْسَ لَك. قلت: فللَّه كل شَيْء».
  • قول أبي الأسود لعمران بن حُصين: سأَله: «أَرَأَيْت مَا يكدح النَّاس؟ أَشَيْء قضى عَلَيْهِم وَمضى من قدر؟ فَقَالَ: قلت بل شَيْء قد قضى عَلَيْهِم وَمضى. قَالَ: فَهَل يكون ذَلِك ظلما؟ قَالَ: فَفَزِعت من ذَلِك، وَقلت: إِنَّه لَيْسَ شَيْء إِلَّا وَهُوَ خلق الله وَملك يَده، وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون. قَالَ: سددك الله! إِنِّي وَالله مَا سَأَلتك إِلَّا لأحرز عقلك».

وَهَذَا قَول كثير من أَصْحَاب مالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، كالقاضي أبي يعلى وَأَتْبَاعه، وأبي المعالي الجويني وأتباعه، وأبي الوليد الباجي وأتباعه، وغيرهم.

مقالة المعتزلة

وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه عدل لَا يظلم، لِأَنَّهُ لم يُرِد وجود شَيْء من الذُّنُوب: لَا الكفْر، وَلَا الفسوق، وَلَا الْعِصْيَان.

بل العباد فعلوا ذَلِك بِغَيْر مَشِيئَته، كمَا فعلوه عاصين لأَمره. وَهُوَ لم يخلق شَيْئا من أَفعَال الْعباد: لَا خيرا وَلَا شرا، بل هم أَحْدَثُوا أفعالهم.

فَلَمَّا أَحْدَثُوا المعاصي، استحقوا الْعقُوبَة، فعاقبهم بها ولم يظلمهم.

هَذَا قَول الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم. وهَؤُلَاء لا يتم تنزيه الله عَن الظُّلْم إِلَّا إذا: لم يكن خالقًا لشيء من أَفعَال الْعباد، بل وَلَا قَادرًا عَلَى ذَلِك، ولم يَشَأ جَمِيع الكائنات، بل يَشَاء مَا لَا يكون، وَيكون مَا لَا يَشَاء، إِذْ الْمَشِيئَة عندهم بمعنى الأمر.

وهَؤُلَاء وَالَّذين قبلهم يتناقضون تناقضا عَظِيما، وَلَكِن للطائفتين مباحث ومصنفات فِي الرَّد على الأخرى، وكلاهما يسمي الأخرى: القدرية. وقد رُوي عن طائفة من التابعين موافقة لهؤلاء.

مقالة أهل السنة

والْقَوْل الثَّالِث – وهو الصواب –: الظُّلْم: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وَالْعدْل: وضع كل شَيْء فِي مَوْضِعه.

والله سُبْحَانَهُ: حَكَم عدل، يَضع الْأَشْيَاء موَاضعها، وَلَا يَضع شَيْئا إِلَّا فِي مَوْضِعه الَّذِي يُنَاسِبه وتقتضيه الحكمة والعدل، وَلَا يفرق بَين متماثلين، وَلَا يُسَوِّي بَين مُخْتَلفين، وَلَا يُعَاقب إِلَّا من يستحق الْعقُوبَة.

وأهل البر والتقوى لَا يُعَاقبهم ألبتة. قال تعالى:{أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين مَا لكم كَيفَ تحكمون} [القلم: 35–36]، {أم نجعل الَّذين آمنُوا وعملوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأرض أم نجعل الْمُتَّقِينَ كالفجار} [ص: 28]، {أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيئات أَن نجعلهم كالَّذين آمنُوا وعملوا الصَّالِحَات} [الجاثية: 21]

قال أبو بكر بن الأنباري: “الظُّلْم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه”، يُقَال: ظلم الرجل سقاءه إِذا سقى منه قبل أَن يخرج زبده. وقال الشاعر: “وصاحب صدق لم تنلني شكاته … ظلمت وَفِي ظلمي لَهُ عَامِدًا أجر”. يريد وَطَب اللبن، وظلمه أن يسقيه قبل أن يخرج زبده.

وقيل: “أظلم من حَيَّة”، لأنها تسكن في حفر لم تحفرها. ويقال: “ظلم الماء الوادي” إِذا وصل إلى موضع لم يكن يصله.

ذكر ذلك أبو الفرج، والبغوي، وغيرهم. وقالوا: “من أشبه أَبَاهُ فما ظلم”، أي ما وضع الشبه فِي غير مَوضِعه.

وهَذَا الأصل – عدل الرب – يتعلّق بِجَمِيع أنواع الْعلم وَالدّين، في أفعال الرب، ومخلوقاته، وأقواله، وشرائعه، وكتبه، والمبدأ والمعاد، والنبوات، والعقاب، والتعديل، والتجوير، إلخ.

وأهل الْملَل كلهم يقرون بعدله، لأن الكتب الإلهية نطقت بذلك. لكن كثيرًا من النَّاس في نفسه ضغنٌ من هذا، وإن قال بلسانه خلاف ذلك. وهَؤُلَاء كثيرًا ما يكونُون من الْمُجبرَة، الذين لا يجعلون العدل قسيمًا للظلم الممكن، بل يقولون: الظلم ممتنع، ويجيزون: تعذيب الأطفال بلا ذنب، وخلق من يُعذّب بالنار أبدًا بلا حكمة، وخلق الذنوب في العبد ثم تعذيبه عليها.

وتفيض نفوسهم إذا أصابتهم الذنوب وعوقبوا، بعبارات يكونون بها خصماء لله تعالى. وقد وقع من هذا كلام من طائفة من الشيوخ وأهل الكلام – وليس هذا موضع ذكر أعيانهم.

وما ذَكرْنَاهُ من الأقوال الثلاثة إنما هو لضبط أصول النَّاس فِي المسألة، والقول الثالث هو الصواب. وبه يتبيّن: أن كل ما يَفْعَله الله فهو عدل، وأنه لَا يضع شيئًا في غير موضعه، وَلَا يظلم مثقال ذرة، وَلَا يجزي أحدًا إِلَّا بِذَنبِهِ، وَلَا يُخاف أحدٌ منه ظلمًا وَلَا هضمًا، وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى، وَلَا يملك الإنسان إلا ما سعى. وإن حصل له نفع من غير سعيه فهو بفضل الله ورحمته، كدعاء غيره له، لكنه لا يستحقه.

قال تعالى: {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى} [النجم: 36–41]. وقوله: {أم لم ينبأ…} يقتضي أن المنبأ بذلك يجب عليه التصديق به. وقال في آخر سورة الأعلى: {إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18–19].


ومما يتبين عدل الرب وإحسانه وأن الخير بيديه والشر ليس إليه كما كان عليه السلام يثني على ربه بذلك في مناجاته له في دعاء الاستفتاح، وأنه سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، بل مع غاية عدله فهو أرحم الراحمين، وهو أرحم من الوالدة بولدها كما أخبر بذلك النبي ﷺ في الحديث الصحيح، وهو سبحانه أحكم الحاكمين كما قال نوح في مناجاته: {وأنت أحكم الحاكمين} [هود 45].

وأن الظلم قد ذكرنا في غير موضع أن للناس في تفسيره ثلاثة أقوال: قيل هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وكلاهما منتفٍ في حق الله تعالى، وهذا تفسير المجبرة القدرية من الجهمية وغيرهم، وكثير ممن ينتسب إلى السنة، وهو تفسير الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم.

والثاني: أنه إضرار غير مستحق، وهذا أيضا منتفٍ عن الله تعالى، وهذا تفسير المعتزلة وغيرهم. وهؤلاء يقولون: لو قدر الذنوب وعذب عليها لكان إضرارًا غير مستحق، والله منزه عنه. وأولئك يقولون: الظلم ممتنع لذاته غير ممكن ولا مقدور، بل كل ما يمكن فهو عدل غير ظلم، وإذا عذب جميع الخلق بلا ذنب أصلا لم يكن ظلما عند هؤلاء، وإذا فعل ما يشاء بمقتضى حكمته وقدرته كان ظلما عند أولئك! فإنهم يجعلون ظلمه من جنس ظلم العباد وعدله من جنس عدلهم، وهم مشبهة الأفعال.

والسيد إذا ترك مماليكه يظلمون ويفسدون مع قدرته على منعهم كان ظالمًا، وإذا كان قد أمرهم ونهاهم وهو يعلم أنهم يعصونه وهو قادر على منعهم كان ظالمًا، وإذا قال: مقصودي أن أعرضهم لثواب الطاعة ولذلك اقتنيتهم، وقد علم أنهم لا يطيعونه، كان سفيهًا ظالمًا. وهم يقولون: إن الرب خلق الخلق وليس مراده إلا أن ينفعهم، وأمرهم وليس مراده إلا نفعهم بالثواب مع علمه أنهم يعصونه ولا ينتفعون. ولهذا طائفة منهم نفت علمه، وآخرون قالوا: ما يمكنه أن يجعلهم مطيعين، وهو قول جمهورهم، فنفوا قدرته، وإن أثبتوه عالمًا قادرًا ولم يفعل ما أراده من الخير، جعلوه غير حكيم ولا رحيم بل ولا عادل.

وأما الطائفة الأخرى، فهم معطلة في الأفعال كما أن أولئك مشبهة الأفعال، فإنهم يعطلون فعل العبد، ويقولون: ليس بفاعل ولا قادر على الفعل ولا له قدرة مؤثرة في المقدور. وأما الرب فيقولون: خلق ما خلق لا لحكمة أصلا، فعطلوا حكمته، وقالوا: إنه يجوز أن يعذب جميع الخلق بلا ذنب، فعطلوا عدله.

والعدل هو فعله، وهو سبحانه قائم بالقسط، فمن نفى عدله وحكمته فإما أن ينفي فعله، وإما أن يصفه بضد ذلك من الظلم والسفه، كما أن الكلام على الطائفتين في غير هذا الموضع.

والصواب القول الثالث، وهو أن الظلم وضع الأشياء في غير مواضعها، وكذلك ذكره أبو بكر بن الأنباري وغيره من أهل اللغة، وذكروا على ذلك عدة شواهد كما قد بسط في غير هذا الموضع.

وحينئذ فليس في الوجود ظلم من الله سبحانه، بل قد وضع كل شيء موضعه مع قدرته على أن يفعل خلاف ذلك، فهو سبحانه يفعل باختياره ومشيئته، ويستحق الحمد والثناء على أن يعدل ولا يظلم، خلاف قول المجبرة الذين يقولون: لا يقدر على الظلم، وقد وافقهم بعض المعتزلة كالنظام، لكن الظلم عنده غير الظلم عندهم. فأولئك يقولون: الظلم هو الممتنع لذاته، وهذا يقول: هو ممكن لكن لا يقدر عليه.

والقدرية النفاة يقولون: ليس في الوجود ظلم من الله، لأنه عندهم لم يخلق شيئًا من أفعال العباد ولا يقدر على ذلك. فما نزهوه عن الظلم إلا بسلبه القدرة وخلق كل شيء.

كما أن أولئك ما أثبتوا قدرته وخلقه كل شيء حتى قالوا: إنه لا ينزه أن يفعل ما يمكن كتعذيب البرآء بلا ذنب.

فأولئك أثبتوا له حمدا بلا ملك، وهؤلاء أثبتوا له ملكا بلا حمد.

وأهل السنة أثبتوا ما أثبته لنفسه: له الملك والحمد، فهو على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو خالق كل شيء، وهو عادل في كل ما خلقه، واضع للأشياء مواضعها.

وهو قادر على أن يظلم، لكنه سبحانه منزه عن ذلك لا يفعله، لأنه السلام القدوس المستحق للتنزيه عن السوء، وهو سبحانه سبوح قدوس يسبح له ما في السماوات والأرض. وسبحان الله كلمة كما قال ميمون بن مهران: هي كلمة يعظم بها الرب ويحاشى بها من السوء. وكذلك قال ابن عباس وغير واحد من السلف: إنها تنزيه الله من السوء. وقال قتادة في اسمه المتكبر: إنه الذي تكبر عن السوء. وعنه أيضا: إنه الذي تكبر عن السيئات.

فهو سبحانه منزه عن فعل القبائح، لا يفعل السوء ولا السيئات مع أنه سبحانه خالق كل شيء، أفعال العباد وغيرها.

والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه، كان قد فعل سوءا وظلما وقبيحا وشرا، والرب قد جعله فاعلا لذلك، وذلك منه سبحانه عدل وحكمة وصواب، ووضع للأشياء مواضعها، فخلقه سبحانه لما فيه نقص أو عيب للحكمة التي خلقه لها هو محمود عليه، وهو منه عدل وحكمة وصواب، وإن كان في المخلوق عيب.

ومثل هذا مفعول في الفاعلين المخلوقين، فإن الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة والحجر الرديء واللبنة الناقصة فوضعها في موضع يليق بها ويناسبها، كان ذلك منه عدلا واستقامة وصوابا وهو محمود، وإن كان في تلك عوج وعيب هي به مذمومة.

ومن أخذ الخبائث فجعلها في المحل الذي يليق بها كان ذلك حكمة وعدلا، وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها.

ومن وضع العمامة على الرأس والنعلين في الرجلين فقد وضع كل شيء موضعه، ولم يظلم النعلين إذ هذا محلهما المناسب لهما. فهو سبحانه لا يضع شيئا إلا موضعه، فلا يكون إلا عدلا، ولا يفعل إلا خيرا، فلا يكون إلا محسنا جوادا رحيما.

وهو سبحانه له الخلق والأمر، فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين، ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وبتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا تعارض أمران رجح أحسنهما، وليس في الشريعة أمر بفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه، ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده.

وهو فيما يأمر به قد أراده إرادة دينية شرعية، وأحبه ورضيه، فلا يحب ويرضى شيئا إلا ووجوده خير من عدمه. ولهذا أمر عباده أن يأخذوا بأحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فإن الأحسن هو المأمور به، وهو خير من المنهي عنه.


كذلك هو سبحانه في خلقه وفعله: فما أراد أن يخلقه ويفعله، كان أن يخلقه ويفعله خيرًا من أن لا يخلقه ويفعله. وما لم يُرد أن يخلقه ويفعله، كان أن لا يخلقه ويفعله خيرًا من أن يخلقه ويفعله.

فهو لا يفعل إلا الخير، وهو ما وجوده خير من عدمه. فكل ما كان عدمه خيرًا من وجوده، فوجوده شر، فهو لا يفعله بل هو منزه عنه، والشر ليس إليه. فالشر – وهو ما كان وجوده شرًا من عدمه – ليس إليه؛ إذ كان هذا مستحقا للعدم، لا يشاؤه ولا يخلقه، والمعدوم لا يُضاف إلى فاعل، فليس إليه.

ولكن الخير بيديه، وهو ما كان وجوده خيرًا من عدمه.

التعليق على قول بعضهم: الخير كله في الوجود، والشر كله في العدم

ومن الناس من يقول: الخير كله في الوجود، والشر كله في العدم، والوجود خير، والشر المحض لا يكون إلا معدومًا. وهذا لفظ مجمل:

  • فإن أُريد بذلك أن كل ما خلقه الله وأوجده ففيه الخير، ووجوده خير من عدمه، فهذا صحيح.
  • وكذلك ما لم يخلقه ولم يشأه، وهو المعدوم الباقي على عدمه، لا خير فيه؛ إذ لو كان فيه خير لفعله سبحانه، فإنه سبحانه بيده الخير.

فالشر العدمي هو عدم الخير، لا أن في العدم شرًا وجوديا. وأما إذا أُريد أن كل ما يُقدر وجوده فوجوده خير، وكل ما يُقدر عدمه فعدمه شر، فليس بصحيح، بل من الأشياء ما وجوده شر من عدمه، ولكن هذا لا يخلقه الرب، فيبقى معدومًا، وعدمه خير.

فهذا خير من هذا العدم بمعنى أن عدمه خير من وجوده، إذ كان وجوده فيه ضرر راجح، وعدم الضرر الراجيح خير، فهو خير عدمي في العدم، إذ العدم لا يكون فيه وجود.

فالشر ليس إليه، وهو ما كان وجوده شرًا من عدمه، فإنه لا يخلقه، وما لم يخلقه فإنه ليس إليه. وكل ما خلقه فوجوده خير من عدمه، وهو سبحانه بيده الخير.

وذلك الذي وجوده شر من عدمه، فإنه سبحانه يدفعه ويمنعه أن يكون مع القيام المقتضي له، كما قال تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج: 38]، {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67]، {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11]، {وهو يجير ولا يجار عليه} [المؤمنون: 88]، فدفعه الشر الذي تريده النفوس الشريرة هو من الخير وهو بيديه.

ولو مكن تلك النفوس لفعلته، فهو سبحانه لا يمكنها بل يمنعها إذا أرادته، مع أنها لو خليت لفعلته. فهو تارة بمنع الشر بإزالة سببه ومقتضيه، وتارة يخلق ما يضاده وينافيه. {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} [النحل: 53]


وقول القائل: خير وشر، أي: هذا خير من هذا، وهذا شر من هذا. ولهذا غالب استعمال هذين الاسمين كذلك، كقوله:{آلله خير أما يشركون} [النمل: 59]، {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلا} [الفرقان: 24]، {وذروا البيع ذلكم خير لكم} [الجمعة: 9]، {وقالت السحرة والله خير وأبقى} [طه: 73]، {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانًا وأضل عن سواء السبيل} [المائدة: 60]، وقال يوسف: {أنتم شر مكانًا} [يوسف: 77]

وقال حسان: فشركما لخيركما الفداء؛ فالخير ما كان خيرًا من غيره، والشر ما كان شرًا من غيره، والخير والشر درجات.

ولهذا قال تعالى لما ذكر أهل الجنة وأهل النار: {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام: 132]،{أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله} [آل عمران: 162-163]

وكذلك ذكر تعالى في الأنعام والأحقاف بعد ذكر الطائفتين.

ولهذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:

درجات الجنة تذهب علوًا، ودرجات النار تذهب سفولا؛ فدرجات الجنة كلها فيها النعيم وبعضها خير من بعض، ودرجات النار كلها فيها العذاب وبعضها شر من بعض.

وإذا قيل: إن الله سبحانه هو خالق الخير والشر، فالمُراد: ما هو شر من غيره، وفيه أذى لبعض الناس.

ولكن خلقه لحكمة، وما خلق لحكمة مطلوبة محبوبة، فوجوده خير من عدمه.

فلم يخلق شيئًا يكون شرًا – أي: يكون وجوده شرًا من عدمه – لكن يخلق ما هو شر من غيره، وغيره خير منه، للحكمة المطلوبة، وما فيه أذى لبعض الناس للحكمة المطلوبة.


وهو سبحانه لا يعذب أحدًا إلا بذنبه، بمقتضى الحكمة والعدل. وفي تعذيبه أنواع الحكمة والرحمة، وهذا ظاهر فيما يُبتلى به المؤمنون في الدنيا من المصائب، التي هي جزاء سيئاتهم. فإن في ذلك من الحكمة والرحمة والعدل ما هو بيّن لمن تأمله.

ولا يعاقب أحدًا إلا بذنبه، كما قال تعالى:{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30]، {وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79]، {ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الأنفال: 53]

فلا يسلبهم إلا إذا غيروا ما في أنفسهم بالمعاصي والذنوب. فلا يُجزي بالسيئات إلا من فعل السيئات، ولا يُوقع النقم ويسلب النعم إلا من أتى بالسيئات المقتضية لذلك، كما فعل بمن خالف رسله من جميع الأمم.

كما قال: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب} [الأنفال: 52]

ثم قال:{ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم} الآية [الأنفال: 53-54]

فذكر تمثيلا لزوال النعم عنهم لما كذبوا بآياته.

ولهذا قال: {فأهلكناهم بذنوبهم} [الأنفال: 54]

وذكر الأول تمثيلًا لعذابهم بعد الموت، كما قال: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب} [الأنفال: 50-52]

فقال هنا: {فأخذهم الله بذنوبهم}، فإن أخذه يتضمن أخذهم ليصلوا بعد الموت إلى العذاب. ولفظ الهلاك يقتضي هلاكهم في الدنيا وزوال النعمة عنهم. فذكر هلاكهم بزوال النعم، وذكر أخذهم بالنقم، كما قال: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} [هود: 102]

ولفظ المؤاخذة من الأخذ، ومنه قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]، وقوله: {إن أخذه أليم شديد} كقوله: {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12]، وقال تعالى: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} [الأنعام: 42]، وقال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} [المؤمنون: 76]

فهذا تعذيب لهم في الدنيا ليتضرعوا إليه ويتوبوا، وذكر هنا أنه أخذهم بالعذاب ولم يقل بالذنوب، كأنه – والله أعلم – ضمن ذلك معنى جذبهم إليه لينيبوا ويتوبوا. وإذا قال: {فأخذهم الله بذنوبهم}، يكون قد أهلكهم، فأخذهم إليه بالهلاك. وبسط هذا له موضع آخر.

حسنًا، سأرتب لك هذا النص الكبير جدًا بنفس الطريقة التي التزمت بها: محافظة على ألفاظه تماما من غير أدنى تغيير، ومقسما إلى فقرات منظمة ليسهل فهمه وقراءته بوضوح:


الله يفعل الخير والأحسن

والمقصود هنا أن كل ما يفعله الرب ويخلقه فوجوده خير من عدمه، وهو أيضًا خير من غيره، أي من موجود غيره يُقدر موجودًا بدله، فكما أن وجوده خير من عدمه، فهو أيضًا خير من موجود آخر يُقدر مخلوقًا بدله.

كما ذكرنا فيما يأمر به: أن فعله خير من تركه، وأنه خير من أفعال غيره يُشتغل بها عنه، كما في قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة: 9]

وقولنا: فعله خير من تركه، سواء جعل الترك وجوديا أو عدميا. والرب تعالى له المثل الأعلى، وهو أعلى من غيره وأحق بالمدح والثناء من كل ما سواه، وأولى بصفات الكمال، وأبعد عن صفات النقص.

فمن الممتنع أن يكون المخلوق متصفًا بكمال لا نقص فيه، والرب لا يتصف إلا بالكمال الذي لا نقص فيه.

وإذا كان يأمر عبده أن يفعل الأحسن والخير، فيمتنع أن لا يفعل هو إلا ما هو الأحسن والخير؛ فإن فعل الأحسن والخير مدح وكمال لا نقص فيه، فهو أحق بالمدح والكمال الذي لا نقص فيه من غيره.

قال تعالى:{وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين} [الأعراف: 145]، وقال: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} [الزمر: 18]، {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55]، {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77]

وقد قال تعالى في مدح نفسه: {قل اللهم مالك الملك… بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26]

وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث} [الزمر: 23]، فكلامه أحسن الكلام؛ وقال تعالى:{الذي أحسن كل شيء خلقه} [السجدة: 7]، فقد أحسن كل شيء خلقه؛ وقال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل: 88]

وهو سبحانه: الرحمن الرحيم، الغفور الودود، الجواد الماجد. وهو سبحانه الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.

وهو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، كما قال أيوب: {مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]

وقال لنبيه ﷺ: {وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين} [المؤمنون: 118]

فهو أحق بالرحمة والجود والإحسان من كل أحد.


وقد قال سبحانه: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} [القصص: 68]، فأخبر أنه يخلق ما يشاء ويختار.

والاختيار في لغة القرآن: يراد به التفضيل والانتقاء والاصطفاء، كما قال: {فلما أتاها نودي يا موسى… وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} [طه: 11–13]

وقال تعالى: {ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين… ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين} [الدخان: 30–33]

وقال: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة} [الجاثية: 16]

ومنه قوله: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} [الأعراف: 155]

ومنه في الحديث: “إن الله اختار من الأيام يوم الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان، واختار الليالي فاختار ليلة القدر، واختار الساعات فاختار ساعات الصلوات.” رواه ابن عساكر في كتاب تشريف يوم الجمعة وتعظيمه عن كعب الأحبار.

قال الشيخ رحمه الله في آخر هذا الفصل من هذه القاعدة:

بيان حقيقة إرادة الله: إذا أراد سبحانه أن يخلق، كان الخلق عقب الإرادة، والمخلوق عقب التكوين والخلق، كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]

والجهمية والمعتزلة لا يقولون بذلك في الفعل، بل يقولون: يفعل مع جواز أن لا يفعل. إلى أن قال: وأصحاب رسول الله ﷺ عرفوا ذلك، وبينوه للناس، وعرفوا أن حدوث الحوادث اليومية المشهودة تدل على أن العالم مخلوق، وأن له ربًا خلقه ويحدث فيه الحوادث.

وقد ذكر ذلك الحسن البصري كما رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب المطر، ورواه أبو الشيخ الأصفهاني في كتاب العظمة، وذكره أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني هارون، حدثني عفان، عن مبارك بن فضالة، قال: سمعت الحسن يقول: “كانوا يقولون – يعني أصحاب رسول الله ﷺ –: الحمد لله الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقًا دائمًا لا يتصرف لقال الشاك في الله: لو كان لهذا الخلق رب لحادثه. وإن الله قد حادثه بما ترون من الآيات”.

وذكر الحسن بعد ذلك أمثلة لتغير الأحوال اليومية، مثل: ظهور الضياء ثم الذهاب به، نزول المطر والبرق والرعد، هبوب البرد والحر، تقلب الأحوال لتعلم الناس أن لهذا الخلق ربًا يحادثه بالآيات.

وقد ذكر الحسن عن الصحابة الاستدلال بهذه الحوادث المشهودة على وجود الرب المحدث الفاعل بمشيئته وقدرته، وبطلان أن يكون موجبًا يقارنه موجبه. فإن ذلك يمنع من إحداث الحوادث فيه. وقولهم: “لو كان لهذا الخلق رب لحادثه”.

يقتضي أن هذه الحوادث آيات لله، وأن هذا الخلق محدث، لأن غيره يحدث فيه الحوادث.

والمقصود: أنه سبحانه وتعالى يخلق بمشيئته واختياره، وأنه يختار الأحسن، وأن إرادته ترجح الراجح الأحسن. وهذا حقيقة الإرادة: لا تُعقل إرادة ترجح مثلا على مثل.

ولو قدر وجود مثل هذه الإرادة، فتلك أكمل وأفضل، والخلق متصفون بها، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق.

ويجب أن يكون ما توصف به إرادته أكمل مما توصف به إرادة غيره، فيجب أن يريد بها ما هو الأولى والأحسن والأفضل.

وهو سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته؛ فالممتنع لا تتعلق به قدرة فلا يُراد، والممكن هو الذي يمكن أن يفعل ويكون مقدورًا، ترجح الإرادة الأفضل الأرجح منه.


تعليق على مقولة الغزالي: “ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم”

وما يحكى عن الغزالي أنه قال: “ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم،”

فإنه لو كان كذلك ولم يخلقه، لكان بخلًا يناقض الجود، أو عجزًا يناقض القدرة، وقد أنكر عليه طائفة هذا الكلام.

وتفصيله: أن الممكن يراد به (القدور)، ولا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم، وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة، ويقدر على غير ما فعله، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع.

وقد يراد به: أنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه.

فهذا ليس قدحًا في القدرة، بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله، لكن قال: ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله.

وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان، وهو سبحانه الأكرم، فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.

آخره والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.

ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ)، جامع الرسائل – ت رشاد سالم (١/‏١٢١-١٤٢)

 

شيخ الإسلام ابن تيمية

تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية. الإمام الحبر البحر، العَلم الفرد، شيخ الإسلام، ونادرة العصر، تقي الدين أبو العباس أحمد الحراني الحنبلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى