الإلحادالمعرفةنقد الفلاسفة والمتكلمين

فصلٌ في إبطال الترجيح بغير مرجّح

النقض على منكري ضرورة السببية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله وبعد؛ فإن من الناس من ذهب إلى أن العقل لا يمنع من وقوع الترجيح من غير مرجّح، وأنه لا محذور في ترجُّح أحد المتساويين لا لسبب. وقد انتشرت هذه المقالة في طائفة من فلاسفة الغرب العصريين، وأطلقوا على ما يجيزونه اسم brute facts، وزعموا أن العلم بالسببية العامة غايته استقراء لا ضرورة؛ ونحن في هذا المقال نبيّن عوار هذا القول، والله الهادي للصواب.

تجويز الترجيح بغير مرجح -> بطلان المعارف

فنقول وبالله التوفيق: لو جاز ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجّح، لجاز الجمع بين المختلفين والتفريق بين المتماثلين، وذلك مما يُناقض صريح العقل، ويُفضي إلى إبطال دلالة كل دليل على مدلوله، إذ كل استدلال إنما يُبنى على اختصاص الدليل بالمدلول، وهذا الاختصاص لا يُتصور إلا بموجب ومقتضٍ.

فإن لم يكن ثَمّ موجب يقتضي هذا الاختصاص، لم يكن الدليل (أ) أولى بالدلالة على (ب) دون (¬ب)، فيستوي الأمرين، فيلزم أن يكون قولنا: (أ) يدل على (ب)، كقولنا: (أ) يدل على (¬ب)، إذ لا فرق بينهما في نفس الأمر، فتبطل بذلك دلالة الدليل، ويرتفع التلازم، وهو عين إبطال الاستدلال.

فمن جوّز اختصاص أحد المتكافئين بلا مرجّح، فقد أثبت اختصاصا اعتباطيا arbitary، وهذا يناقض الضرورة العقلية التي يقتضيها التلازم بين الدليل والمدلول، وهو خلف.

فباختصار:

– كل استدلال يتضمن دعوى أن الدليل (أ) يدل على المدلول (ب) دون نقيضه (¬ب).

– وهذا التخصيص يقتضي وجود موجب يربط (أ) بـ(ب) دون غيره.

– فإن فُرض عدم هذا الموجب، استوى الأمران (ب) و(¬ب) في نسبة الدليل إليهما.

– وإذا استويا، بطل اختصاص أحدهما، وارتفعت دلالة الدليل.

– وإذا بطلت الدلالة، سقط أصل الاستدلال العقلي، وهو المطلوب نفيه.

فالحاصل: أن تجويز الترجيح بلا مرجّح، يستلزم التسوية بين المتناقضين في دلالة الدليل، وهو يؤدي إلى رفع النقيضين، وهو باطل بضرورة العقل.

فإن قيل: إن التلازم بين الدليل والمدلول تلازم ذاتي، لا يُطلب له علة، إذ هو من البديهيات، والطلب فيه تسلسل.

فنقول: هذا الكلام خلط. فإن دعوى “الذاتية” لا تُنكر وجود المقتضي، بل تفترضه، لأن قولنا: “صدق القضية ذاتي”، معناه أن في ذاتها ما يوجب صدقها، لا أنه لا مقتضي له. وفرقٌ بين أن يكون الدليل غير محتاج إلى برهانٍ خارجي، وبين أن لا يكون له وجهٌ موجب في ذاته. فإن لم يكن في المعنى ما يوجب المدلول، لم يكن فيه ما يمنع نقيضه، وإذا جاز النقيض، بطلت الضرورة، وسقطت دعوى البداهة.

ووجه ثاني أن يقال: لو جاز أن تنقدح في النفس معرفة ضرورية بلا مقتضٍ، لجاز أن ينقدح نقيضها كذلك، وإذا جاز اجتماع الضرورة ونقيضها، بطل مفهوم الضرورة العقلية من أصله.

ملحق: في بيان أن هذا القول يهدم العلوم الطبيعية

تعتمد عامة النظريات في علوم الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء الحديثة على منطق استدلالي يُعرف بـ القياس التفسيري abductive reasoning، وصورته:

١) نفترض فرضية (أ) لتفسير مشاهدة (ب).

٢) نستنتج فرضيات ملازمة قابلة للاختبار من (أ).

٣) إذا طابقت هذه الفرضيات آثار الواقع = اعتُبر ذلك تنبؤًا ناجحًا.

النتيجة: (أ) يشبه النظام السببي الذي أدى إلى (ب).

ومثال ذلك: سقوط الأجسام تفسيره بوجود الجاذبية، فإذا وافقت نتائج النموذج التنبؤات المشاهدة، حُكم عليه بالصحة.

فإن جاز الترجيح بغير مرجح، بطلت دلالة (٣) على (أ)، لأنه يجوز أن تلك الآثار المشاهدة (التي طابقت التنبؤ) قد ترجحت من غير مرجح، فيُصبح التطابق محض اقترانٍ لا يدل على تفسيرٍ سببي، ويسقط منطق العلوم الاستقرائية.

فإن قيل: إن حصول التنبؤ يدل بالضرورة على وجود علاقة سببية، والضرورة لا تُعارض بالإمكان العقلي.

قيل: هذا الاستدلال يعود إلى قاعدة كلية، وهي: “كل تطابق بين التنبؤ والمشاهدة يدل على علاقة سببية”؛ فهل هذه القاعدة عُلمت بالاستقراء أو بالاستنباط؟ كلاهما لا سبيل إليه، ويكفينا أن إمكان الترجيح بغير مرجّح ينقض يقينها.

ثم إن اللزوم السببي هو من طرف واحد فقط، فوجود النظام يقتضي التنبؤ، لكن التنبؤ لا يقتضي وجود النظام، فهما غير متكافئين، ويبطل الترجيح السببي في حال إمكان حدوث التنبؤ من غير موجب.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

آدم بن محمد المالكي

مهتم بالذب عن الآراء السنية السلفية، وبتحرير أقوال أهل السنة في الطبيعيات والانسانيات و العقليات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى