قال النبي ﷺ ذات يوم في خطبته: «ألَا إن ربي أمرني أن أُعَلِّمَكم ما جَهِلتم، ممَّا علَّمني يومي هذا، كلُّ مالٍ نَحَلتُه عبدًا حلال، وإني خلقتُ عبادي حُنَفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمَقَتهم عربهم وعَجَمهم، إلَّا بقايا من أهل الكتاب..» رواه مسلم.
فما هو الفكر العقدي الذي ساد في الارض حينها؟
حتى خالف الناس الحنفية وأشركوا بالله، مما أوجب مقته اياهم!
فإذا كان ما جاء به القرآن هو نفسه السائد حينها، فعلى ماذا مقت الله العباد؟
قبل بعثة النبي ﷺ ساد الفكر المثالي اليوناني، بالخصوص مثالية افلاطون وأرسطو، فتجد العالم (الفيلسوف) في هذا العصر إما آرسطيًا او أفلاطونيًا أو موفقًا بينهما.
ففي العصر الهليستيني إختلطت الثقافة اليونانية المثالية العقلانية بالثقافة الشرقية المثالية الوجدانية..
فأزدهر علم السحر والتنجيم وازدهرت الوثنية وعبادة الكواكب والنجوم، حَتَّى رَبًّا فِي ذَلِك الصَّغِير وهرم فِيهَا الْكَبِير لَا يعْرفُونَ غير ذَلِك بل يُنكرُونَ أَن يتَكَلَّم أحد بِخِلَافِهِ، فلم يكن يتصور وجود خطاب خارج هذا النسق المثالي العقلاني الوجداني – ووصف “العقلاني” ليس مدحا هنا فانتبه-.
وظهرت المسيحية في هذه الأجواء فما كان لها إلا أن تخضع لهذا النسق، إلا قلة قليلة، لهذا قال نيتشه ووافقه غيره من الباحثين «المسيحية أفلاطونية مخصصة للشعب». ¹
واتفقت شرائع ومعتقدات ما قبل الاسلام -إلا قلة- على تعطيل الإله وتجريده من الصفات؛ البراهمة، الزرادشتيين، المسيحيين، والوثنيين على اختلافهم، واتفقت على الشرك به حيث لا يمكن للنفس ولا للبداهة إلا أن تطمئن لكائن حي فعّال “ما يصطلح عليه الفلاسفة بالإله المتشخص personal god” أي الإله ذو الوجود الواقعي الحي المريد الذي يحب ويكره ويثيب ويعاقب، فلما جردوا الإله عن هذه الصفة ذهبوا هذا يعبد عيسى وهذا يعبد بوذا وهذا يعبد زيوس والآخر يعبد اللات ومناة، وآخر يعبد النار أو الشمس أو النجوم فضلًا عن عبادة عظمائهم وصالحيهم المقبورين وبناء الهياكل لهم²، مع اعتراف أغلبهم بالرب الواحد، مع تعطيلهم لصفاته، وإنما يضعون له الشركاء ليقربوهم زلفا. وغالبهم كان على عقيدة أرسطو «المحرك الذي لا يتحرك» أو بعبارة أخرى “الفاعل الذي لا يفعل”.
فجاء الاسلام منابذًا مناقضًا لكل هذا، فقد اجتالت الشياطين الإنسان الى المثالية الذهنية والخرافات والسحر وتقديس الأموات، وجاء الاسلام ليعيدهم الى الواقع ومافيه.
وكانوا يصفون الإله بصفات المعدومات، التي لا تتصور الأذهان أن يوجد في الأعيان خارج الذهن من هو على هذه الصفة، فقد جعلوه إلها مثاليّا وجوده أشبه بـ “القيم والمعاني الذهنية الكلية المجردة” وجردوه عن الوجود المعين، فجاء الإسلام يؤكد الصفات الوجودية وعلى رأسها الوحدانية وأنه موجود في الأعيان في أشرف الجهات وهي العلو. وكانوا سابقًا ينفون عنه الفعل والحركة والاسلام يثبت الأفعال، والحركة لله في غير موضع؛ {وجاء ربك…} {استوى على العرش..} في سبع مواضع {واستوى الى السماء …} «ينزل ربنا في الثلث الاخير من الليل….» وغيرها من النصوص. وأكد الاسلام على تمحيض التوحيد لله، وسد كل أبواب الشرك سواء العملية أو العلمية؛ ومن ذلك قوله ﷺ «لَا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فإنَّما أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولوا: عبدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.» ورفض السحر والكهانة الذي كان يعتبر هو العلم في ذاك العصر؛ «لا يفلح الساحر حيث أتى». وفي حين كان السائد أن العلم الصحيح هو العلم بماهية الشيء، جاء الاسلام بتصور آخر أن العلم الصحيح هو العلم النافع الغائي؛ وقسم العلم الى نافع وغير نافع، وكان النبي ﷺ يدعوا الله قائلا «اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ من علمٍ لا ينفعُ، ومن قلبٍ لا يخشعُ…» الى آخر الحديث، و قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } فلم يجب عن الماهية التي زعم الفلاسفة وجودها مركبة من جنس وفصل أو مادة وصورة وما الى ذلك من خرافاتهم، وإنما ركز عن العلم بما ينفعنا (الوظيفة).
ودع عنك تشقيقات الفلاسفة ما فوق القمر وما تحت القمر وهل هو عقل أو مادة وهل يؤثر في الارض، وما إلى ذلك من الجهالات التي لا تنفع بل تضر بالعباد وتجعلهم يشركون بربهم عبادة الكواكب، فضلًا عن جعلهم لا يسعون للعمل والكد والاعتماد على ” الطالع ” وكوكب النحس ونحوه مما هو معروف في هذه الثقافات السحرية.
والمقصود أن ما جاء به الاسلام كان مصادمًا تمامًا للنسق السّائد سواءً على المستوى الوجودي أو المعرفي.
فالحرب الفكرية بين المثالية والإسلام أعظم من الحرب المسلمين والكفار بالسيف والسنان وقد عرف أهل الحديث والاثر هذه النقطة الفارقة وكانوا على وعي بهذا الصدام الجذري. وكانوا يطلقون على أصحاب هذا الفكر المثالي: “الجهمية”.
اذ عرفت المثالية بالجهمية عند اهل الحديث. يقول ابن تيمية «ثُمَّ لَمَّا عُرِّبَتْ الْكُتُبُ الرُّومِيَّةُ وَالْيُونَانِيَّةُ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ: زَادَ الْبَلَاءُ؛ مَعَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الضُّلَّالِ ابْتِدَاءً مِنْ جِنْسِ مَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ: انْتَشَرَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهَا مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّة.» ³ فبعد ترجمة كتب الفلسفة التي كانت طافحة بالمثالية، ظهر أن ما ينصرونه هؤلاء في كتبهم هو ما يسميه السلف بالجهمية، ويقول ابن تيمية أيضا «فَهَذِهِ أَسَانِيدُ جَهْمٍ تَرْجِعُ إلَى الْيَهُودِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْفَلَاسِفَةُ الضَّالُّونَ هُمْ إمَّا مِنْ الصَّابِئِينَ وَإِمَّا مِنْ الْمُشْرِكِينَ.» ⁴ فظهر من ذلك أن مقالة الجهمية أخذت عن تراث من كانوا قبل الاسلام الذين مقتهم الله.
ولهذا قال ابن القيم «الحرب بين أهل الحديث والجهمية أعظم من الحرب بين عسكر الاسلام وعسكر الكفران» ⁵
وقد كان جميع الفلاسفة المؤثرين في عصر ما قبل الاسلام مثاليين كأرسطو وافلاطون وأفلوطين وبرقلس وفورفريس وغيرهم، حتى أصبح ذكر مقالات الفلاسفة هو ذكر لمقالات هؤلاء المثاليين بالضرورة، لهذا قال ابن تيمية نقلًا عن أحد أئمة الحديث «ليس الا مذهبان، مذهب أهل الحديث ومذهب الفلاسفة» ⁶. وهذا يعني عند التمحيض والتحقيق فلا يوجد الا مذهبين، وما تبقى من المذاهب إنما هي فروع لهما.
وقال غير واحد من أئمة الحديث «الأشعرية مخانيث المعتزلة، والمعتزلة مخانيث الفلاسفة» ⁷. لماذا؟
لأنهم شاركوا الفلاسفة في أصولهم المثالية، وخصوصا عقيدة أرسطو المحرك الذي لا يتحرك، وعطّلوا بذلك صفات الله عز وجل وخالفوا أهم أصول أهل الحديث والاسلام التي ناقضوا بها أهل الشرك و الكفران.
والحديث الذي ابتدأت به «ألَا إن ربي أمرني أن أُعَلِّمَكم ما جَهِلتم، ممَّا علَّمني يومي هذا، كلُّ مالٍ نَحَلتُه عبدًا حلال، وإني خلقتُ عبادي حُنَفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمَقَتهم عربهم وعَجَمهم، إلَّا بقايا من أهل الكتاب..» رواه مسلم.
هذا الحديث حجة على كل مسلم، حجة ضد كل مبتدع حاول التوفيق بين اصول الفلاسفة الفاسدة كأرسطو وأفلاطون وغيره، كما فعله غير واحد من نظار المسلمين بداية بالكندي ثم الفارابي مرورا على الغزالي والرازي وابن رشد وغيرهم من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة.
فهو دليل على ان هذا الفكر السائد حينها في الناس الذين مقتهم الله، فأنا يكون هو الهدى والحق الذي جاء به النبي ﷺ؟!
وكيف يكون حكماء فارس والهند واليونان الذي هم ممن مقت الله أعلم بالله وصفاته من الانبياء وحكماء الاسلام من صحابة وتابعين وأئمة المحدثين؟!
فبعد كل هذه المباينة والمناقضة والمنافرة بين النسق الفكري الذي ساد البشرية قبل الاسلام وبين شريعة الاسلام في هذه الأصول العظيمة، كيف يدعي ملحد أن الاسلام ابن بيئته وأنه نتيجة تجميع لأفكار سائدة!
فهذا من أعظم الجهل، وأبعد ما يتصور عن الموضوعية في البحث.
والمتكلمين والمتفلسفة من أمتنا هم من فتحوا هذا المنفذ للملحدين حتى يطعنوا في دين الله، فلا للإسلام نصروا ولا للملاحدة كسروا. اذ اجتالت الشياطين العديد من المسلمين كما اجتالت من قبلهم من الأمم، وهذا مصداق قوله ﷺ «ولتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو القذة بالقذة…»، فهم الذين جعلوا كلام ارسطو وغيره من الوثنين حاكمًا على كلام رب العالمين، والله عز وجل قال {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} وقال {جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. وقوله عز وجل {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاق}.
ونختم بكلام معبر عن هذا الحال على لسان أحد أدباء مصر من القرن تاسع عشر، قال:
«قلت لإبليس ماذا أحدثت من التدليس؟ فقال… لما جاء دين الإسلام دخلتُ بالعقليات في أهل الكلام، وبنيت مباحثهم في جميع المقولات، على معارضة الوحي بالعقليات، فتشبّعت الأفكار، وظهر الطعن والإنكار، وانقسم الفريق الواحد إلى فرقاء، وتخاذل الإخوان والأصدقاء، وتفرّقت كلمة الاجتماع، وتعددت وحدة الأتباع، وأخذ كلٌ يؤيد حجته، ويقوي شبهته، فانقسمت الأمة إلى أمم، وانصرفت للتعصب الهمم، وانتهى الأمر باستحكام العلماء، فأريقت بينهم الدماء، وحطمت الأمة نفسها، وهدمت دعامتها وأسها» ⁸ انتهى.
ولا حول ولا قوة الا بالله.
_______
¹- ما وراء الخير والشر تباشير فلسفة للمستقبل، نيتشه، ترجمة: جيزيلا فالور حجار، مراجعة: موسى وهبه، دار الفارابي، ط1، ص 19
²- من ذلك قول أفلوطين: “وقد ذكروا -فلاسفة اليونان- أن كثيرًا من الأنفس التي كانت في هذه الأبدان وخرجت منها ومضت إلى عالمها: لا تزال مُغِيثَةً لمن استَغاثَ بها، والدليل على ذلك: الهياكل التي بُنِيَت وسُمِّيَت بأسمائها، فإذا أتاها المُضطَرُّ أغاثُوهُ ولم يُرجِعُوه خائبًا”. [أثولوجيا أفلوطين عند العرب، نصوص حققها: بدوي عبد الرحمن، الطبعة الثالثة، انتشارات بيدار، ص٢١]
³- مجموع الفتاوى لشيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني، المجلد الثالث، اعتنى بها وخرج أحاديثها: عامر الجزار وأنور الباز، دار العبيكان، ص 18
⁴- المصدر السابق.
⁵- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ابن القيم الجوزيه، ص 244
⁶- درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ج1، ص 203
⁷- الرسالة المدنية (بحث نظري وتطبيقي في الأسماء والصفات)، شيخ الاسلام ابن تيمية، تحقيق: الوليد بن عبد الرحمن الفريان، ط1، ص 38
⁸-المسامير، عبد الله النديم، اعتنى بطبعه ي، ن، هـ، م، ص١٢٠-١٢٣.
بقلم: محسن بوعكاز
مراجعة: الغيث الشّامي