جواب شبهة الأشاعرة في قولهم لأهل السنة:
“حرروا لنا المعنى المفهوم عندكم من صفة الوجه واليد ونحوهما!”
الحمد لله وحده، أما بعد، فمن الأسئلة الماكرة التي يباغت بها بعض الأشاعرة أهل السنة، أن يقول قائل الأشاعرة: سلمنا لكم بأن للنزول معنى حقيقيا في الأعيان، ينسب إلى ذات الرحمن، وكذلك الوجه والعين واليد والصورة ونحو ذلك، فما هو المعنى الذي تثبتونه لهذه الصفات، وكيف تفهمونها؟ قلتم الاستواء هو العلو والاستقرار فوق العرش، ودللتم على ذلك بآثار عن بعض السلف، فما المعاني التي تفهمونها من هذه الألفاظ أو تعقلونها في حق الله تعالى؟ يؤتى بسؤال كهذا لأحدهم فيسقط في يده ولا يدري بأي شيء يجيب، ومن ثم يحسب الأشعري أنه إذ أسكته على ذاك النحو، فقد حجه بذلك، وألزمه بتفويض المعنى الذي يقولون به! وهذا يا إخوان، هو ما رمى إليه ذاك الرجل الذي جاء إلى الإمام مالك رحمه الله في حلقة الدرس، فسأله “كيف استوى؟”، فأطرق الإمام برأسه، وقيل حتى علته الرحضاء، أي العرق، ثم قال مقالته المشهورة: “الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة” (1)، ثم قال رحمه الله، كما جاء في بعض الروايات كما عند أبي عثمان الصابوني وغيره: “وما أراك إلا ضالا” فأمر به فأخرج من مجلسه أو من داره! مع أن السائل ما قرر شيئا، وما زاد فيما يظهر لأول وهلة على أن سأل عن صفة الاستواء في حق الله تعالى كيف هي؟!! ولكن لأن الإمام رحمه الله تفطن لما وراء السؤال، قطع عليه الطريق بطرده من مجلسه! وإلا فمعنى الاستواء في الآيات، كما فسره به السلف، مشهور مسند إليهم، ولهذا قال رحمه الله “الاستواء غير مجهول”! فلو كان يظن في السائل أنه لا يدري حقا كيف فهم السلف الاستواء، كما تظاهر به، لأجابه بكلام السلف ولا إشكال! ولكن هذا يدلك على فطنة أئمة السنة رحمهم الله، وعلى حرصهم على تغليق الأبواب أمام أهل البدع، فلا يستدرجهم أحد إلى باطله!
جاءني أحدهم بسؤال كتبه بالانكليزية، وظل يطاردني به في غير صحفة من صفحات القناة، تحت المحاضرات الأخيرة، وهنا على الصفحة في التعليقات وعلى الخاص، وأنا أحذفه، فيرجع لينشره من جديد. فأجبته على الخاص جوابا أرجو أن يكون في نشره هاهنا نفعا لمن يقف عليه. قال السائل (وهذه ترجمتي لسؤاله):
سؤال: أولا، من الواضح أني لست أسأل عن كيفية صفات الله (الوجه والساق والقدم واليدين والأصابع والعين .. إلخ)، لأن من الواضح أن هذا السؤال لا يقدر أحد على إجابته. فسؤالي هو: ما المفهوم من منعى كلمة ساق أو كلمة وجه، مثلا؟ أو لأصوغه على نحو أفضل: ما هو جواب السؤال: ما المعنى المفهوم من قولنا إن لله وجها، مثلا، أو ساقا؟ كيف يجيب السني عن هذا السؤال: ما هو “معنى” أن لله ساقا؟ ما معناها؟ مرة أخرى، ليس السؤال هو “كيف” أو “على أي حقيقة” يكون لله ساق، أو ما هي صفة ساق الله، ولكن السؤال هو ما الذي يعنيه نسبة الساق إلى الله؟؟؟ لست أظن أنه مجرد الإجابة بأن الله له عدة صفات، وواحدة من تلك الصفات، يعبر عنها بكلمة “ساق”، هو جواب لسؤال: ما هو معنى ساق الله. فلو أن أحدا سأل ما معنى البصر في حق الله، فيمكن أن يجاب فيقال، مثلا، هو قدرته على إبصار جميع الموجودات، جميع ذلك واقع تحت عينه الباصرة، وهو يرى كل شيء ولا يخفى شيء على بصره أو عينه. ونظير ذلك نجيب به عن السؤال: ما معنى سمع الله؟ فيجيب أحدنا، مثلا، بأن يقول إن له القدرة على الاستماع إلى جميع الأصوات في الوجود، جميع الأصوات تسمع بوضوح وبلا التباس. يسمع كل ذلك، فلا يغيب عن سمعه صوت من الأصوات في الوجود، أو يصل إليه خافتا أو ضعيفا. فكيف يجيب السني عن سؤال مناظر بشأن معنى الساق لله؟ ما هو الجواب عن “معنى” هذا؟ وكذلك فإن لله صورة، فمعنى هذا قد تقول إنه مفهوم، ولكن ما معنى أن آدم خلق على صورته؟ ما معنى أن يكون آدم على صورة الرحمن؟ إن لم يكن يعني أن صورة آدم عليه السلام، تبدو كصورة الرحمن، لأن الحديث كما هو واضح لا يصرح بهذا، فما المعنى الذي ينبغي أن نفهمه إذن؟ أو للدقة: ما الذي يعنيه الحديث فيما يتعلق بصورة آدم عليه السلام تحديدا؟؟؟ أرجو منك التوضيح، ربما، في مقطع فيديو قصير، حتى ينتفع مشاهدو القناة كما أنتفع أنا. وفقك الله ورضي عنك، ورزقنا الإخلاص والقبول.
انتهى السؤال كما نقلته إلى العربية.
فقلت في جوابه (مع تصرف يسير في بعض المواضع):
لماذا تسأل بالانكليزية أخي وأنت تجيد العربية؟
أولا أخى، لا يجوز أصلا السؤال: ما معنى يد الله وما معنى عين الله وما معنى ساق الله .. إلخ، لماذا؟ لأنه كما قال مالك رحمه الله الاستواء معلوم، أي معلوم المعنى، فكذلك يقال هنا: اليد معلومة والعين معلومة إلى آخر ذلك، والسلف كانوا يقولون تفسيرها تلاوتها، بمعنى أنك إذا سمعتها عرفت المعنى دون تفسير أو شرح أو بيان!
فكيف نعرف المعنى؟ نعرفه بالقدر المشترك العقلي بين جميع ما مر علينا في عادتنا من أنواع الموصوفات بذلك المعنى. وفي الحقيقة فلا نسلم لك بأن معنى اسم “السميع” أي القادر على سماع كل شيء، وإنما السميع هو الذي يسمع فعلا، والسمع نعرف معناه دون شرح أو تفسير، لأننا نعرف ما هو من عادتنا في جميع الموصوفات به، بصرف النظر عن كيفية حصوله فيها، وهي الصفة التفصيلية التي تتفاوت فيها أنواع الموصوفات بمعنى السمع! وكذلك يقال في الصفات الذاتية والفعلية ولا فرق! ما الوجه؟ هو ذلك الشيء القائم بذات الموصوف به، بحيث إن رأيناه فيه عرفنا أنه وجهه. وهنا يسفسط الأشاعرة فيقولون: ولكن هذا لا يكفيني، بل أطالبك بأكثر من هذا حتى أعرف كيف أميز الوجه عن غيره من صفات الموصوف به، كأن تقول لي هو ما يكون فوق الكتف، أو يكون فيه العينان .. إلخ، إما هذا وإما ألا أفهم معنى كلمة “وجه” في أي شيء يوصف بها، وهذا كله تنطع وتكلف لا وجه له على الإطلاق، فأنت لا ترى للنملة كتفا ومع هذا تعرف إذا رأيتها أن لها وجها، ولا ترى للدودة عينين، ومع هذا تثبت لها وجها، إلى غير ذلك! ولو اشترط علينا الأشعري مزيدا من الشرح والتفصيل، رجاء أن يوقعنا في التكييف الذي نفرق بينه وبين إثبات المعنى، فيلزمنا به، إن اشترط علينا ذلك، ألزمناه بنظيره في معنى السمع الذي يثبته هو لله تعالى دون تطلب نفس هذا النوع من التفصيل الذي يطالبنا به هنا! فأنت تعرف ما السمع، دون أن تقول: فصله لي حتى أعرف كيف أفرق بينه وبين غيره من الصفات! وإلا فالمعتزلة عطلوا السمع والبصر لأنهم قالوا: لا نعلم للسمع، بموجب العادة، أي حقيقة إلا أن يكون انفعالا بالصوت المخلوق!!
فالنصيحة لك يا أخي، إن كنت من أهل السنة، أن تكف عن طرح أمثال هذه الأسئلة، وأن تقف حيث وقف السلف! فالإمام مالك رحمه الله لما سأله السائل: كيف استوى، أطرق برأسه وتصبب عرقا وطرده من مجلسه ورماه بالبدعة من مجرد السؤال!
انتهى الجواب.
قلت: ويضاف إلى ذلك أن طلب توضيح الواضح هو من أجلى صور السفسطة التي تربى عليها المتكلمون في مدرسة اليونان! فنحن نعلم ما الصورة! فإذا أخبرنا الله تعالى أنه خلق آدم على صورته سبحانه، فهمنا منه أن الله خلق لآدم وجها كما أن له وجها سبحانه! وخلق لآدم عينين كما أن له عينين، وجعل له أصابع كما أن له سبحانه أصابع! وأعظم ما في الصورة الوجه، ولهذا حرم الله ضرب وجه الآدمي، في نفس هذا الحديث، معللا بأن آدم مخلوق على صورة الرحمن سبحانه! أما أن يكون كل شيء من ذلك (الوجه والعينان والصورة) حقيقته في الله تعالى، كما هي في آدم، أو كيفيته، فهذا هو التشبيه الباطل المردود! الله أعلم كيف ذلك في حقه، لا يعلمه سواه! فنحن نطالب الأشاعرة بأن يثبتوا المعاني كما أثبتها السلف، وأن يمروها بلا كيف، لأن حقيقة هذا السؤال عن المعنى، وإن كان صاحبه ينفي عن نفسه أن يكون سائلا عن الكيف، هي السؤال عن الكيف! فكأنما سألني: كيف يكون موصوفا بالوجه سبحانه، ونحن ما نعقل للوجه حقيقة إلا ما يكون على كيفية كذا وحقيقة كذا وكذا؟؟ كيف يكون موصوفا بالساق، ونحن لا نعرف من حقائق ما يقال له “ساق” إلا أن يكون كذا وكذا؟؟ فجواب ذلك أن يقال كما قال مالك في الاستواء: نعلم معنى الوجه والصورة في اللغة ولا يخفى علينا، ونثبت القدر المعنوي المشترك بين الله تعالى وبين الآدمي في ذلك، ونقول: كيف ذلك وحقيقته في ذات الله تعالى غير معقولة، والإيمان بالوجه والصورة واجب، والسؤال عنهما بدعة، ثم نسكت ولا نزيد!
فإذا فهمت هذا، تبين لك أن تكلف الأشعري هذه الطريقة في إلزام أهل السنة بالتكييف، هو، من حيث المقتضى والمآل، ما سماه مالك رحمه الله في الأثر المشهور بالبدعة، وطرد الرجل من مجلسه من أجله! فهو بهذا يطالبنا بأن نثبت كيفا ما في الحقيقة، حتى يصح أن نثبت للصفة “معنى ما”، فإن عجزنا عن تحرير الكيفية التي يطالبنا بها، أو “صفة الصفة”، وقلنا لا ندري، ألزمنا بتفويض المعنى! فالعاقل إذا تجرد للحق وتدبر، أدرك أين يقف الأشاعرة على التحقيق من جواب مالك في هذه الرواية، وأنه على عكس ما لم يزالوا يكافحون من أجل إظهاره عليه، والله المستعان لا رب سواه، والحمد لله أولا وآخرا.
أبو الفداء ابن مسعود
عفا الله عنه.
——————-
(1) ومع أن جميع الطرق المسندة لهذا الأثر فيها قوله رحمه الله “الاستواء غير مجهول” وما في معناه، إلا أنه قد وردت رواية عند ابن عبد البر رحمه الله بلفظة “استواؤه مجهول والفعل منه غير معقول”!! وهي كما لا يخفى رواية شاذة، لأن المعنى المثبت فيها على نقيض ما هو مشهور محفوظ! ومع هذا تعلق بها بعض الأشاعرة في الانتصار لبدعتهم، في إفلاس لا يخفى، وزعموا أنها تنسف ما تعلق به مخالفوهم من قوله رحمه الله “الاستواء غير مجهول”، وتدل على أن مالكا كان يقول بتفويض المعنى مع دفع الكيفية ونفيها، والله المستعان! والعجيب أن منهم من زعم أن ابن تيمية رحمه الله إذ اشتهر في كتبه إيراد الرواية بلفظة “الاستواء معلوم والكيف مجهول”، فإنما يدلس ويحرف الأثر بذلك عمدا من أجل أن ينتصر لمذهبه، لأن هذا اللفظ لم يرد في أي من طرق الأثر المسندة! وكأن هذا المعترض يحرم رواية الأثر عن إمام من الأئمة بالمعنى، وإن لم يثبت اللفظ في الآثار المسندة! فمن الواضح أنه لا فرق بين قولنا “معلوم” وقولنا “غير مجهول”، إذ المعنى واحد! ولا بين قولنا “الكيف مرفوع” (في جواب سؤال هو أصلا عن ذلك الكيف!)، وقولنا “مجهول أو غير معلوم”! ومن الواضح كذلك، وبعيدا عن لجج هؤلاء وسفسطتهم، أنه لو كان الكيف منتفيا في حقه سبحانه، وكان يلزم من مجرد إثبات المعنى المعلوم (وهو العلو) ولو مع نفي إمكان المعرفة به، تشبيه رب العالمين بالمخلوقات، وتصييره جسما مركبا من الجواهر والأعراض المزعومة، لما قام بالمطلوب من الجواب أن يقول: “الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول”، أو “كيف عنه مرفوع” كما وردت في طريق من الطرق، رحمه الله! إذ من الواضح أنه لا يلزم من كون الكيف غير معقول، نفي وجوده في الأعيان! وكذا قوله “الكيف مرفوع”، الأظهر منها أنه يقصد: لا يسأل عنه بكيف كما جاء عن بعض السلف، لا أن الكيف منتف في الأعيان!
وإلا فسمع الله تعالى كيفيته غير معقولة، ومع هذا فأنتم تثبتون له سمعا حقيقيا يقوم بذاته لا كالأسماع! لا كالأسماع في أي شيء؟؟ في الكيفية والحقيقة! فإن سئلتم “كيف يسمع الأصوات”، كما سئل مالك “كيف استوى”، فلن تجيبوا إلا بأن الكيف غير معقول أو مرفوع كما أجاب مالك، أي لا يسأل عنه “بكيف”، لا أنه لا كيفية له في الأعيان البتة، إذ ما لا كيفية لكونه على ما هو عليه (وهو ما يسأل عنه بكيف، مبدئيا)، أيا ما كان ذلك، فلا حقيقة لذلك المعنى فيه أصلا! فنفي الكيفية وجوديا هو نفي لقيام أصل المعنى في الموصوف به، وجوبا وضرورة! فكما أنكم إذا سألكم المعتزلي: “كيف يسمع الله تعالى الأصوات، مع أن السمع إنما هو اهتزاز لطبلة الأذن على أثر موجات الصوت”، فلن تجيبوه إلا بأن تقولوا: “الله أعلم كيف يسمع سبحانه، ولا يجوز تشبيه صفة السمع فيه بصفة السمع في المخلوقين”، فكذلك نجيبكم نحن إذا قلتم: “كيف يكون عاليا على عرشه مع أن العلو إنما هو تحيز والتحيز إنما يكون عرضا في الأجسام المركبة من جواهر وأعراض”، نجيبكم بأن نقول: الله أعلم كيف علا فوق عرشه سبحانه، ولا يجوز تشبيه صفة الاستواء فيه بصفة الاستواء في المخلوقين (على التسليم تنزلا بصحة هذا الخرف اليوناني الميتافيزيقي في معنى العلو في المخلوق!)!
فمذهبكم يقوم قياما كليا على التفريق بين المتماثلات في العقل، بل وفي نظرية الجوهر والعرض نفسها التي تشربتم بها وأسستم عليها كما أسس المعتزلة من قبلكم! عرض أقل